قالوا: لأنّه لا يعلم مكانَها أحدٌ إلاّ الله عزّ وجلّ. ومعتمد هؤلاء ما يلي:
أ) ما رواه البخاري عن طارقِ بنِ عبدِ الرّحمنِ قال:
انْطَلَقْتُ حَاجًّا، فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ يُصَلُّونَ، قُلْتُ: مَا هَذَا الْمَسْجِدُ ؟ قَالُوا: هَذِهِ الشَّجَرَةُ حَيْثُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ ! فَأَتَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ نَسِينَاهَا، فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم لَمْ يَعْلَمُوهَا وَعَلِمْتُمُوهَا أَنْتُمْ ؟! فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ.
ب) ما رواه البخاري أيضا عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: رَجَعْنَا مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا ! كَانَتْ رَحْمَةً مِنْ اللهِ.
ت) وقال الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص 65):
" ... ثمّ إنّ الشجرة فُقدت بعد ذلك، فلم يجدوها، وقالوا: إنّ السّيول ذهبت بها، فقال سعيد بن المسيب: سمعت أبي – وكان من أصحاب الشّجرة – يقول: قد طلبناها غير مرّة فلم نجدها ".
ث) وقال الإمام الطّبري رحمه الله في " تفسيره " (ج22/226):
" وزعموا أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت ؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، وبعضهم يقول: ههنا، فلمّا كثر اختلافهم قال: سيروا، هذا التكلّف. فذهبت الشّجرة وكانت سمُرة إمّا ذهب بها سيل، وإمّا شيء سوى ذلك ".
ج) قالوا: أمّا أثر عمر رضي الله عنه في قطع الشّجرة، فقد أخرجه ابن سعد في الطّبقات (2/100) عن نافع قال: كان النّاس يأتون الشّجرة الّتي يقال لها شجرة الرضوان فيصلّون عندها، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت.
ورواه ابن أبي شيبة أيضا في " المصنّف " (2/73/2) قال: حدّثنا معاذ بن معاذ، قال: أنا ابن عون عن نافع قال: بلغ عمرَ بنَ الخطّاب رضي الله عنه أنّ أناسا يأتون الشّجرة الّتي بويع تحتها، قال: فأمر بها فقطعت.
والأثران صحيحان إلى نافع، أمّا إلى عمر فلا، فإنّهما من قبيل المرسل، لأنّ نافعا لم يُدركَ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
وقد ضعّفه الشّيخ الألباني رحمه الله في " تحذير السّاجد " (ص125).
* القول الثّاني: أنّ مكانها معلوم لبعضهم، وأنّ عمر قطع الشّجرة.
ومعتمد هؤلاء ما يلي:
أ) ما رواه البخاري عن جابر بنِ عبدِ الله رضي الله عنه قال: قال لنا رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: (( أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ ))، وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ، وَلَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ الْيَوْمَ لَأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَةِ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (7/448) :
" إنكار سعيد بن المسيّب على من زعم أنّه عرفها معتمدا على قول أبيه: إنّهم لم يعرفوها في العام المقبل، لا يدلّ على رفع معرفتها أصلا، فقد وقع عند المصنّف من حديث جابر الذي قبل هذا " لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة "؛ فهذا يدل على أنّه كان يضبط مكانها بعينه، وإذا كان في آخر عمره بعد الزمان الطويل يضبط موضعها ففيه دلالة على أنه كان يعرفها بعينها، لأنّ الظاهر أنها حين مقالته تلك كانت هلكت إما بجفاف أو بغيره، واستمر هو يعرف موضعها بعينه.
ب) أمّا أثر نافع فهو حقّا مرسل، لكنّه يتقوّى بغيره، من ذلك:
- ما أخرجه الفاكهي في " أخبار مكّة " (5/77) قال: حدّثنا أحمد بن سليمان، قال: ثنا زيد بن المبارك، قال: ثنا ابن ثور عن ابن جريج في قوله تعالى:{يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} قال: سمرة كانت بالحديبية، فكانت هذه الشجرة يُعرَف موضعُها، ويؤتى هذا المسجد، حتّى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فبلغه أنّ النّاس يأتونها، ويصلّون عندها فيما هنالك، ويعظّمونها؛ فرأى أنَّ ذلك من فعلهم حدث.
- وأخرج أيضا في (5/78) قال: حدّثنا حسين بن حسن المروزي، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عون، قال: بلغ عمرَ رضي الله عنه أنّ الشّجرة الّتي بويع عندها تؤتى، فأوعد في ذلك وأمر بها فقطعت.
لذلك صحّحه الشّيخ الألباني في " تخريج أحاديث فضائل الشّام "، ومن المعلوم أنّه رحمه الله ألّفه بعد " تحذير السّاجد ".
الحاصل:
يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يقال:
- إنّ عمر رضي الله عنه قد قطع شجرةً، ولكن ليست هي شجرة الحديبية الّتي تمّت عندها البيعة، لأنّه لم يعد يعرف مكانها أحدٌ، ومن كان يعرف مكانها لم يقدِر على بيانها للنّاس مثل جابر رضي الله عنه، ولكنّه قطع شجرة أخرى كان النّاس يظنّون أنّها هي الشجرة الّتي وقعت تحتها البيعة.
وذلك لأمرين اثنين:
أ) تجمّع النّاس حول تلك المنطقة أمر ثابت كما في صحيح البخاري.
ب) ثمّ لا يمكن أن يرى عمر رضي الله عنه هذا المنكر، وهو تعظيم النّاس لشجرة يُظنّ أنّها مباركة، ثمّ لا يغيّره !
لذلك ما أجمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " اقتضاء الصّراط المستقيم " (1/306):
" أمر عمر رضي الله عنه بقطع الشّجرة الّتي توهّموا أنّها الشّجرة الّتي بايع الصّحابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تحتها بيعة الرّضوان لمّا رأى النّاس ينتابونها ويصلّون عندها كأنها المسجد الحرام أو مسجد المدينة "اهـ.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم.