ذلك؛ لأنّها لم تحدُث إلاّ في القرن الثّاني، حيث جاء بها المسلمون من أرض الهند، وهذا يدلّ على جهل واضع حديث السّبحة بتاريخ السّبحة ! وكيف يحضّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صحابتَه على أمر غيرِ معروفٍ ولا موجود لديهم ؟!
وممّا يؤكّد أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يتفوّه بكلمة ( السّبحة ) قط، ما جاء في " لسان العرب " حيث قال ابن منظور رحمه الله:
" والسّبحة: الخرزات الّتي يعدّ المسبّح بها تسبيحه، وهي كلمة مولّدة ".
وفي "شرح القاموس المحيط" للزّبيدي رحمه الله ما نصّه:" هي كلمة مولّدة، قال الأزهريّ: وقال شيخنا: إنّها ليست من اللّغة في شيء، ولا تعرفها العرب .. "اهـ.
ومن المقرّر لدى كلّ دارس للّغة العربيّة أنّ ( المولّد ) هو ما أحدثه المولّدون الّذين لا يُحتجّ بكلامهم بعد 150 هـ، كما في "المزهر" (1/304)، و"خزانة الأدب" (1/4).
فأعود، وأقول: لنا للكلام عن السّبحة وقفتان:
الوقفة الأولى: في أدلّة القائلين بمشروعيّتها.
استدلّوا بثلاثة أحاديث:
1) الحديث الأوّل:
ما رواه التّرمذي وأبو داود عن سعْدِ بنِ أبي وقّاصٍ رضي الله عنه أنَه:
دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى امْرَأَةٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى-أَوْ قَالَ:حَصًى- تُسَبِّحُ بِهِ، فَقَالَ: (( أَلَا أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ ؟: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ )).
قال التّرمذي رحمه الله:" وهذا حديث حسن غريب "، وسكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذّهبي !.
وهذا الحديث فيه علّتان:
( الأولى ): خزيمة، قال الذّهبي نفسه في " الميزان ":" لا يُعرف، تفرّد عنه سعيد بن أبي هلال "، وقال الحافظ في " التّقريب ":" لا يعرف".
( الثانية ): سعيد بن أبي هلال، فهو مع كونه ثقةً، كان قد اختلط كما حكى السّاجي عن الإمام أحمد، وابن حزم عن يحي بن معين في "الفصل" (2/95)، لذلك لم يذكر غيره من الرّواة خزيمة فصار الإسناد منقطعا.
وقد قرّر المحقّقون من أهل الحديث أنّ التّرمذي متساهل في التّحسين، وكذا الحاكم، وأنّه لا يُغترّ بسكون أبي داود [وقد فصّل ذلك بما لا تراه عند غيره الشّيخ الألباني رحمه الله في مقدّمته على " تمام المنّة "].
2) الدّليل الثّاني:
ما رواه التّرمذي أيضا عن صفيّةَ رضي الله عنها قالت:
دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَبَيْنَ يَدَيَّ أَرْبَعَةُ آلَافِ نَوَاةٍ أُسَبِّحُ بِهَا، فَقَالَ: (( لَقَدْ سَبَّحْتِ بِهَذِهِ ؟ أَلَا أُعَلِّمُكِ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَبَّحْتِ بِهِ ؟)) فَقُلْتُ: بَلَى عَلِّمْنِي. فَقَالَ: قُولِي: (( سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ ..)) الحديث.
قال الترمذي وقال: " هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث صفيّةَ إلاّ من هذا الوجه من حديث هاشم بن سعيدٍ الكوفيّ، وليس إسناده بمعروف، وفي الباب عن ابن عبّاس رضي الله عنه "اهـ.
وصحّحه الحاكم ووافقه الذّهبي، وتبعه السّيوطي في " المنحة "، والإمام الشّوكاني رحمه الله في " نيل الأوطار ".
فنرى أنّ التّرمذي نفسه ضعّفه، أمّا الذّهبي فهو نفسه قد ذكر راوي الحديث هاشما بن سعيد في " الميزان " وذكر تضعيف العلماء له، ولهذا قال الحافظ في " التّقريب ": " ضعيف ".
ووجه الدّلالة من هذين الحديثين: أنّ فيهما عقدَ التّسبيح بالنّوى، ويقاس عليها التّسبيح بالسّبحة، كما قال ملا عليّ القاري وابن حجر الهيتمي الفقيه رحمهما الله.
3) الحديث الثّالث:
ما رواه الدّيلمي في "مسند الفردوس" عن عليِّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( نِعْمَ المُذَكِّرُ السُّبْحَةُ )).
وهذا الحديث موضوع، إسناده ظلمات بعضها فوق بعض، فجلّ رواته مجهولون، وفي إسناده متّهم، وهو محمّد بن هارون بن عيسى الهاشميّ، فقد اتّهمه ابن عساكر بالوضع، وكذا الخطيب في "تاريخه" (7/403).
ويدلّ على وضع هذا الحديث ما سبق بيانه في مقدّمة هذا المقال، وهو أنّ لفظة ( السّبحة ) مولّدة.
وقد نقل السّيوطي في " المنحة في السّبحة " جملة من الآثار عن بعض الصّحابة أنّهم استعملوا السّبحة أو ما في معناها، منهم أبو هريرة رضي الله عنه.
وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة (2/189/1)، عن رجل من الظفار قال: نزلت على أبي هريرة رضي الله عنه، ومعه كيس فيه حصى، أو نوى، فيقول: سبحان الله، سبحان الله، حتّى إذا نفد ما في الكيس ألقاه إلى جارية سوداء، فجمعته ثمّ دفعته إليه.
وأيّ طالب علم للحديث إذا رأى سند هذا الأثر سارع إلى تضعيفه؛ لأنّ في سنده رجلا لم يُسمّ فهو مجهول.
الوقفة الثّانية: في بيان بدعيّة السّبحة.
إذا تبيّن لنا أنّ ما ذكروه من الأدلّة لا ينهض لإثبات مشروعيّة السّبحة أو عقد التّسبيح بالنّوى، فلنعلم أنّ هذا العمل ليس بمشروع لوجوه:
- الوجه الأوّل: أنّه مخالف لهدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
فقد روى أبو داود والتّرمذي وأحمد عن يُسَيْرَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم ( أَمَرَهُنَّ أَنْ يُرَاعِينَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَأَنْ يَعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ، فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ ).
وفي رواية قال صلّى الله عليه وسلّم: (( وَاعْقِدْنَ بِالأَنَامِلِ، فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ )).
فهذا أمر بالعقد بالأنامل، وعلّل أمره بأنّهن مستنطقات مسؤولات، فلا يقوم مقام الأنامل شيء.
- الوجه الثّاني: إنكار السّلف لمن سبّح بالحصى، وفي ذلك آثار كثيرة منها:
أ) ما رواه ابن أبي شيبة (2/89/2) عن إبراهيم بن يزيد النّخعي أنّه: كان ينهى ابنته أن تعين النّساء على فتل خيوط التّسبيح الّتي يُسبّح بها.
ب) وروى أبو زرعة الرّازي في "تاريخه" (126/2-127/1) بسند صحيح - كما في " التعقيب الحثيث " للشيخ الألباني رحمه الله - عن أبي بكر بن حفص قال: سألت ابن عمر رضي الله عنه عن التّسبيح بالحصى ؟ فقال: " على الله أُحصِي ؟!"
ج) وأعظمها أثر ابن مسعود رضي الله عنه في " سنن الدّارمي "، حيث وقف على جماعة كانوا يسبّحون بالحصى، فقالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ ؟
قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ! حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ.
قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ. وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ! مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ ! هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صلّى الله عليه وسلّم مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ أَوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلَالَةٍ.
قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ !
قَالَ: ( وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ .. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ. ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ.
فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ.
وبهذا تعلم ضعفَ قولِ الإمام السّيوطي - ونقله الشّوكاني في" نيل الأوطار "- أنّه لم يُنقل عن أحد من السّلف إنكارُ عقد التّسبيح بالنّوى !.
- الوجه الثّالث: ما تجرّه من المفاسد:
فزيادة على أنّه لا يصّح شيء يمكن أن يستدلّ به من قال بمشروعيّة السُّبحة، فليعلم أنّ هناك مفاسد في استعمالها، من ذلك:
1- المفسدة الأولى: فيه تشبّه بالنّصارى، فمن ذهب إلى سوريّة ولبنان، شاهد بأمّ عينيه النّصارى يعلّقونها على أوساطهم وعليها الصّليب !
2- كما أنّ في اتّخاذ السّبحة مظهرا بيّنا من مظاهر الرّياء والسّمعة والتّظاهر بالصّلاح، وكثيرا ما تشاهد بالشّام ومصر يعلّقونها برقابهم أو يكوّرونها بأيديهم، وهم لا صِلة لهم بشيء من طاعة الله، ولا قبلة لهم إلاّ بالدّرهم والدّينار.
3- كما أنّ في اتّخاذ السّبحة هجرا لسنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، إلاّ أنّي أذكّر القارئ بقوله تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَخَيْرُ الهَدْيِ هَدْيُ مَحمَّدٍ )).
وأختم هذه السّطور بأن أذكّر إخواننا أنّ هذه المسألة مسألة اجتهاديّة، كغيرها من المسائل، ووصفُنا للشّيء بأنّه بدعة، لا يعنِي أبدا أنّ فاعلها مبتدع ما دام يعتقد صحّة الآثار الّتي بين يديه، وبذل ما عليه، وفرق بين الحكم على الشّيء بالنّوع، والحكم على المعيّن.
هذا ما يمكننا أن نذكره في هذه العجالة، ونسأل الله تعالى الإخلاص والصّواب في القول والعمل، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.