وتفصيل ذلك فيما يلي:
أ) فإن كان وليُّها غيرَ زوجها، كالأب، والأخ، فلا يجب ولا يُشترط إخبارُهم، ولا الاستئذانُ منهم باتّفاق العلماء.
ولكن تُنصح المرأة بأن تبدأ بأقرب النّاس إليها إن كانوا في حاجة، كالوالدين، والإخوة، والأخوات.
فقد روى مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ ؟ قَالَ: (( أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ )) أي: ثمّ الأقرب فالأقرب.
وروى التّرمذي وغيره عن سلْمانَ بنِ عامرٍ رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ )).
ب) أمّا إن كانت متزوّجة، فلها أربع حالات:
1- إن تصدّقَتْ من مال زوجها بإذنه، فجائز بلا خلاف.
وينبغي للزّوج أن يتذكّر أنّ له مثل أجرِها؛ لأنّه لم يمنعها من ذلك.
ففي صحيح البخاري عن عائشةَ رضي الله عنها عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا كَانَ لَهَا بِهِ أَجْرٌ، وَلِلزَّوْجِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْقُصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَجْرِ صَاحِبِهِ شَيْئًا، لَهُ بِمَا كَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ )).
2- إن أنفقتْ من ماله بغير إذنه فحرام بلا خلاف أيضا.
فقد روى التّرمذي عن أبي أمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم في خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يقولُ: (( لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا )) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الطَّعَامُ ؟! قَالَ: (( ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا )).
3- إن أنفقتْ من مالها الخاصّ بإذنه، فهو جائز من باب أولى، وهذا لا خلاف فيه أيضا.
4- أن تنفق من مالها الخاصّ بغير إذنه، فهنا اختلفوا على أقوال:
- القول الأوّل: لا يحلّ لها أن تتصدّق من مالها ولو كانت رشيدة.
وهو مذهب اللّيث بن سعد رحمه الله، وبه قال الإمام الشّوكاني رحمه الله في "نيل الأوطار" (6/22). واستدلّوا بأحاديث صحيحة:
منها: ما رواه أبو داود والنّسائي عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لاَ يَجُوزُ لاِمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا )) [وصحّحه الألباني].
ومنها: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنّسائي والحاكم في رواية أخرى بلفظ: (( لاَ يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ أَمْرٌ فِي مَالِهَا إِذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا )). [صحّحه الحاكم، ووافقه الذّهبي، والشّيخ شاكر، والألباني رحمهم الله].
ومنها: ما رواه ابن ماجه والطّحاوي في"شرح معاني الآثار" (2/403) أنّ خَيْرَةَ امرَأةَ كعْبِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه أَتَتْ رَسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِحُلِيٍّ لَهَا، فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِهَذَا.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ فِي مَالِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَهَلْ اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا ؟ ))، قَالَتْ: نَعَمْ.
فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ زَوْجِهَا فَقَالَ: (( هَلْ أَذِنْتَ لِخَيْرَةَ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا ؟)) فَقَال: نَعَمْ ! فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مِنْهَا.
والصّواب أنّ هذا الحديث ضعيف، قال الطّحاوي رحمه الله:" حديث شاذ لا يثبت "، وقال ابن عبد البرّ:" إسناده ضعيف لا تقوم به الحجّة ".
- القول الثّاني: لا تجوز صدقتُها إلاّ من الثّلث، وهو قول طاوس والإمام مالك رحمهما الله.
وليس هناك دليل صحيح على هذا القول.
- القول الثّالث: الجواز مطلقا، وهو قول الجمهور.
وهو الصّحيح إن شاء الله للأدلّة الكثيرة، منها:
1- ما رواه البخاري عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه أنّ ميْمُونةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي ؟ قَالَ: (( أَوَفَعَلْتِ ؟)) قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: (( أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ )).
2- وما رواه البخاري عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ يَوْمَ أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَتُلْقِي سِخَابَهَا.
والشّاهد أنّهنّ لم يستأذِنّ أزواجهنّ، ولم يُنكر عليهنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
3- ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ، فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ وَقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ، وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ ... الحديث.
فعائشة رضي الله عنها قد أعتقَت بريرةَ من مالها، دون أن تستأذن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وما كان منه صلّى الله عليه وسلّم حين علم إلاّ أن قال: (( خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ )).
كلّ هذه الأحاديث فيها أنّ النّساء كُنّ يتصدّقن من غير إذن أزواجهنّ، وأنّه يجوز للمرأة أن تتصدّق من مالها، إلاّ أن تكون سفيهةً، فلا.
أمّا النّصوص الّتي ظاهرها المنع، فقد حملها الجمهور على الإرشاد إلى الأفضل، ولا شكّ أنّ الزّوج يحبّ أن تستأذنه المرأة في كلّ شؤونها، فالأفضل لها الاستئذان ولا يجب.
قال الخطّابي رحمه الله كما في " عون المعبود ":
" عند أكثر الفقهاء هذا على معنى حُسْن العشرة، واستطابةِ نفس الزّوج بذلك ".
والله تعالى أعلم.