قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقا، حَتَّى دَخَلا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فقال: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ !
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَمَا ذَاكَ ؟)).
قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا ؟!
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً )) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. [رواه مسلم].
وممّا أُثِر عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال:" أَجِمُّوا هذه القلوبَ، والتمسوا لها طرائفَ الحكمة، فإنّها تملّ كما تملّ الأبدان ".
ويقول ابن الجوزيّ رحمه الله:" لقد رأيت الإنسانَ قد حُمِّل من التّكاليف أموراً صعبةً، ومن أثقلِ ما حُمِّل مداراةُ نفسِه، وتكليفُها الصَّبرَ عمّا تُحِبّ وعلى ما تكره، فرأيت الصّواب قطعَ طريقِ الصّبر بالتّسلية، والتلطّف للنّفس ".
ولكنْ، ما من شيء أنعمَ الله به على الإنسان إلاّ نسي فيه فضلَ الله، وأمِنَ فيه سخطَ الله ..
فترى مفهومَ الإجازة اليوم قد أخذ مفهوماً آخر لدى الكثير، فترى فيه من المخالفات ما لا يعلمه إلاّ العليّ القدير، ومنها:
ضياع الأوقات ..
فهاهُم الطلاّب والمدرّسون، قد ألقَوْا عن عاتِقِهم عبءَ الدّراسة، وثِقَل المذاكرة، وهُمُوم التّصحيح، وقيل لهم: اذهبوا فأنتم الطّلقاء !
فترى معظمَ من ترى، بمجرّد ما يطرُق الصّيفُ بابَ حياتِه، حمل لواءَ تضييعِ الأوقات، وكأنّه ينتقم من الْجِدّ الّذي أمر الله به، ومن العمل الذي أوصانا الله به !
تسمع أحدَهم يقول: في الصّيف، سوف أنام أكثرَ من عشر ساعات يومياً !
ويقول الثّاني: سوف أتفرّغ لمتابعة القنوات الفضائيّة !
ويُعلِن الثّالث بأنّه سوف يسافر إلى الخارج، ليتمتع بجميل المناظر، والجوّ السّاحر !
ونَسُوا أنّ أعظمَ الجرائم المرتكبة في حقّ النّفس، أعظم من تضييع المال والفلس، هو: ضياع الأوقات ..
والعجيب أنّهم عبّروا عنها باسم " العُـطـلـة "!
قال أهل اللّغة: العَطَل: فُقدان الزّينة والشّغل .. والأعطال من الرّجال: الّذين لا سلاح معهم .. والتّعطيل: تركُ الشّيء ضياعاً .. وبئرٌ معطّلة: أي مهملة .. وإبلٌ معطّلة: لا راعي لها.
وتأمّلوا - عباد الله - أنّ هذا المعنى قد تحوّل واقع، فصار مفهوم الصّيف عند الكثيرين هو: تسويغ ضياع الأوقات، وقضاؤها في غير ما يُرضي ربّ السّماوات، وترك الأعمال الجليلة، وارتكاب الرّذيلة، وإهمال كلّ راعٍ لرعيّته، وتقصير كلّ مسئول في مَهمّته !
ألا فتذكّروا - معاشر المؤمنين - أنّ المسلمَ محاسبٌ على كلّ نفَسٍ من أنفاسه، ومسؤولٌ عن كلّ لحظة من لحظات حياته ..
تذكّروا أنّ ما أُلْقِي علينا من مَهمَّات جسام، وأمورٍ عِظام، لا تكاد تسعها أوقاتنا، فكيف نتصوّر بعد ذلك أن يأتينا موسم كاملٌ نكون فيه عَطَلَة بَطَلَة، لا شغل ولا مشغلة ؟!
لقد مرّ ابنُ عقيل رحمه الله يوماً على صبيان أمضَوا عامّة يومهم في اللّعب فقال: ما هذا ؟ فقالوا: فرغنا ! فقال: أو بهذا أُمِر الفارغ ؟ أين نحن من قوله تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ} ؟
وكيف يسوغ في عقل أن يكون لدى الإنسان المسـلم وقــت ( معطّـل ) ووقته هو حياته ؟
قال ابن القيم رحمه الله:
" فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادّة حياته الأبديّة في النّعيم المقيم، ومادّة المعيشة الضّنك في العذاب الأليم، وهو يمرّ أسرعَ من مرِّ السّحاب، فما كان مِن وقته لله وبالله فهو حياتُه وعمرُه، وغير ذلك ليس محسوبا من حياته ... فإذا قطع وقتَه في الغفلة والشّهوة والأماني الباطلة، وكان خيرُ ما قطعه بالنّوم والبطالة، فموت هذا خيرٌ له من حياته.
وإذا كان العبد وهو في الصّلاة ليس له من صلاته إلاّ ما عقل منها، فليس له من عمره إلاّ ما كان فيه بالله "اهـ[1].
إنّ الجميع يبكي على ضياع المياه في الطّرقات، وينوح لضياع المتاع بالإتلافات، ولكنّك لا تسمع من يبكي لأجل ضياع الأوقات !
فهذا العمر الّذي تعيشه - أيّها العبد - هو مزرعتُك الّتي تجنِي ثمارَها في الدّار الآخرة، فإن زرعته بالخير والصّلاح، جنيت السّعادة والفلاح، وكنت من الّذين يُنادَى عليهم في الدّار الباقية:{كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
وإن ضيّعته بالغفلات، وزرعته بالمعاصي والمخالفات، ندمت يوم لا تنفعك النّدامة، وتمنّيت الرّجوع إلى الدنيا يوم القيامة، فيقال لك:{أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ٱلنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر:37].
أيها المسلمون، لقد صحّ في سنن التّرمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:
(( لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ )).
وروى البخاري عن ابنِ عمَرَ قال: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: (( كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ )) فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لمن كان يجالسه: ( إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ )).
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن مجاهد قال: ما من يوم إلاّ يقول لابن آدم: قد دخلت عليك اليوم، ولن أرجع إليك إلى يوم القيامة فانظر ماذا تعمل فِـيَّ..
وقد كان عيسى عليه السلام يقول:" إنّ اللّيل والنهار خزانتان، فانظروا ماذا تضعون فيهما ".
وعن الحسن رحمه الله أنّه قال:" ليس يومٌ من أيّام الدّنيا إلاّ يتكلّم، فيقول: يا أيّها النّاس، إنّي يومٌ جديد، وإنّي علي ما يعمل فِـيَّ شهيد، وإنّي لو قد غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة ".
فيا أيّها المسلمون، عليكم بحفظ أوقات هذه الصّائفة فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة، وعليكم بملاحظة أولادكم وتوجيههم إلى استغلال هذه الإجازة فيما يعود عليهم بالنّفع.
أقول ذلك؛ لأنّ النّاس في الإجازة ينقسمون أقساما، فمنهم رابح وخاسر، ((كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو: فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقُهَا )).
- فمنهم من يبقى في بلده، في رعاية أهله ووَلَدِه:
يقضيها في تعليم أولاده القرآن الكريم، ويُحضِرهم إلى المساجد لتلقّي العلم والذّكر الحكيم، ويراقب حضورَهم وغيابَهم، ويتعاهد حفظهم وتحصيلَهم؛ لأنّه أدرك أنّ ابنَه طِوَال العام الدّراسي بحجّة الدّراسة، والوالد بحجّة العمل، لا يستطيع أن يصلَ إلى هذا الخير.
فهذا قد نصح أولاده، فعسى أن يكونوا عوناً له في الحياة، وخلفاً وذخراً له بعد الممات، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فيُؤتَى به يوم القيامة في أرفع الدّرجات، يقول: يا ربّ ! يا ربّ ! أنّى لي هذا ؟ فيقول المولى تبارك وتعالى: بدعاء ولدك الصّالح لك.
- وبعضهم لا يرغب إلاّ في أن يقضي الإجازة الصّيفية بالسّفر إلى زيارة المسجد الحرام، فيقضي أوقاتَه هناك بأنواع الطّاعات، والصّلاة الواحدة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، والمسجد النبوي بألف صلاة، فهذا قد عرف قيمة الوقت ووُفِّق لاستغلاله.
- وبعضهم الآخر: يسافر لزيارة أقاربه، وصلة أرحامه، يقضي الإجازة بينهم، فتقرّ به أعينهم.
- وبعضهم الآخر: يسافر للنّزهة داخل البلاد بين أظهر المسلمين، محافظاً على دينه وتعاليم ربّ العالمين، فعمله هذا مباح لا لوم فيه ولا عِتاب، بل إدخال السّرور على الأهل فيه جزيل الثّواب.
- وآخرون - وهم الأكثرون -: يقضي العطلة في اللّهو واللّعب، واللّغو والصّخب، وترك الواجبات وفعل المحرّمات، أو يسافر إلى بلاد الكفرة، وبقاع الفجرة، فينغمس في أوحال الضّلالة، ويعيش في أوكار السّفالة، فهذا الّذي قد ضيّع الزّمان، وباء بالإثم والخسران.
الخطبة الثّانية:
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلاّ على الظّالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وليّ الصّالحين، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، إمام الأنبياء والمرسلين، اللهمّ صلِّ عليه وسلِّم وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
عباد الله، فإذا علمنا معنى الإجازة في الإسلام، وأنّها لا تعنِي أبداً تضييعَ السّاعات والأيّام، فإليكم صوراً لتضييع الأوقات فاحذروها، وآفات النّاس في الإجازات فاجتنبوها:
- أوّلا: احذر التّلفاز والقنوات الفضائيّة !
أحذّركم من أعظم ما يهدم الأوقات.. أحذّركم ممّا يُستعمل لقتل الأخلاق والقضاء على الفضيلة، ويُحارَب به دين الله ويدعو إلى الرّذيلة ..
إنّها أسلحة صنعها الكفّار ورمونا بها في بلادنا، بل في ديارنا، حتىّ تسلّلت إلى بيوت كثير من المسلمين.
وصارت في متناول النساء والأطفال وسفلة الرجال: ألا وهو جهاز استقبال القنوات الفضائية !
ذلك الجهاز الخبيث الّذي تعرض على شاشته أفلام الدّعارة والمجون، والسّموم باسم الفنون ..
أفلام الزّنا واللّواط .. أفلام الرّقص والاختلاط .. الأفلام الّتي تعلِّم السّرقة والخيانة وممارسة الجريمة .. أفلام تحارب الإسلام وتحارب أخلاق أهل الإيمان .. تعلّم الأطفال رفعَ الصّوت على الآباء والأمّهات .. وتهوّن في منظارهم فعل الكبائر والموبقات !
برامج تجعل من السّاقط في المجتمع قدوةً يُقتدَى به .. تجعل المغنّي الخليع، والممثّل السّاقط، واللّاعب السّفيه .. تجعلهم قدوةً لأبنائنا، وفلذات أكبادنا !
وأصبح النّاس - بل أكثر النّاس - إذا ذكّرته بهذا الأمر سارع قائلا: الجهاز مبرمج على القنوات العربيّة فقط !
سبحان الله ! وكأنّ القنوات العربيّة اليوم بأيدي خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص ! وغفل أنّها بأيد كلّ فاسق مَرِيد، وعاتٍ على ربّه وعاص ..
يظنّ أنّ الحرام فقط أن تنظر إلى أفلام الخلاعة والمجون .. وكأنّ عنق المرأة ليس بعورة ..! وكأنّ قدم المرأة ليس بعورة ..! وكأنّ تدلّلها وخضعانها بالقول ليس بعورة ..!
ثمّ إنّ هذه الأجهزة من أعظم ما يقضي على الأوقات، ويلتهم السّاعات .. وكلّنا يعلم أنّ أبناء مجتمعنا يصرفون أطيب أوقات يومهم أمامها، وهم في دراستهم، فكيف بهم في الصّيف ؟!
ومن مظاهر إضاعة الأوقات في الصّيف الناشئة عن هذا المفهوم الخاطئ:
ثانيا: السّهر والسّمر في غير طاعة.
فقد تعوّدت مجتمعاتنا السّهر إلى ساعات متأخّرة من اللّيل أمام التّلفاز، أو في أحاديث فارغة لا جدوى منها، أو في الولائم والأعراس ! ولو لم يكن في هذا السّهر إلاّ مخالفةُ هدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لكفى بذلك سوءاً.
فقد روى البخاري عن أبي بَرْزَةَ رضي الله عنه أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (( كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا )).
قال ابن حجر رحمه الله:
" لأنّ السّمر بعدها قد يؤدّي إلى النّوم عن الصّبح، أو عن وقتها المختار، أو عن قيام اللّيل، وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يضرب الناس على ذلك، ويقول: أسَمَراً أوّل اللّيل ونوماً آخره ؟! ".
وقال أيضاً:" والمراد بالسّمر ما يكون في أمرٍ مباح؛ لأنّ المحرّم لا اختصاص لكراهته بما بعد صلاة العشاء، بل هو حرام في الأوقات كلّها".
ولم يستحبّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم السّمر بعد العشاء إلاّ في الأمور النّافعة: كالعبادة، أو مدارسة الفقه والخير، أو ملاطفة الأهل والضّيف، فقد ورد في كل ذلك من الأحاديث ما يرخّص فيه أو يستحبّه.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نعتِب على كثير من إخواننا سهرَهم في قيلٍ وقالٍ، وتضييعِ أوقات، حتّى يؤول بهم الأمر إلى النّوم عن صلاة الفجر !
نسأل الله أن يُصلح قلوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويهدينا إلى أقوم سبيل، إنّه بكلّ جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.