فالأصل: هو تحريم الاستعانة بالمشركين في أمور الدّين بلا تفصيل.
وأمّا الأمور العامّة في شؤون المسلمين فإنّه يحرم استعمالهم في إدارتِها والاطّلاع عليها، إلاّ بشرطين اثنين:
الأوّل: ضعف وقلّة المسلمين.
الثّاني: ائتمان الكافر، أي: يكون أمينا.
فقد نقل النّووي رحمه الله عن الشّافعي وآخرين قالوا: إن كان الكافر حسَنَ الرّأي في المسلمين، ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استُعِين به، وإلاّ فيكره، وحمل فعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على هذين الحالين.
ومن شاء التّفصيل فليراجع ما قاله شيخ الإسلام ابن القيّم رحمه الله في "أحكام أهل الذمّة" (1/449).
والحجّة في الجواز بهذين الشّرطين قصّتنا هذه في الهجرة، فإنّنا نرى اعتماد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على رجل من بني الدّيل على الاهتداء في الطّريق.
في الطّريق إلى المدينة.
فها هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصاحبُه أبو بكر رضي الله عنه يواصلان المسير، تحت عناية العليّ القدير.
وفي طريقهما شاهدا بعضَ الأغنام، فاقتربا من الرّاعي، فطلبا منه السّقيا، فقال: ما عندي شاةٌ تُحلب، غير أنّ ههنا شاةً حملت أوّل الشّتاء وما بقي لها لبن.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( اُدْعُ بِهَا !)) فاعتقلها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومسح ضِرعها، ودعا حتّى أنزلت، وحلب وسقى أبا بكر رضي الله عنه، ثمّ حلب فسقى الرّاعي، ثمّ حلب فشرب.
وتأمّل - أخي القارئ - حتّى وهو في جهد الطّريق، وتعب المسير، وخوف العدوّ، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم لا يُغفِل أبدا آداب الإسلام، إذ هو الّذي علّمنا أنّ ساقيَ القوم آخرهم شربا.
أخلاق لم يعهدها هذا الرّاعي، فهو يراه يحلب بنفسه، ويسقي النّاس بنفسه !
لم يعهدها من الأغنياء، ولا الأمراء .. لأنّها أخلاق نبيّ.
أخلاقٌ أَسَرَتْهُ فما كان منه إلاّ أن أعلن اتّباع الحقّ:
فقال الرّاعي: بالله من أنت ؟! فوالله ما رأيت مثلك قط ؟
فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( أو تراك تكتم عليّ إن أخبرتك ؟ )), قال: نعم.
قال صلّى الله عليه وسلّم: (( فإنّني محمّد رسول الله )).
فقال: أنت الّذي تزعم قريش أنّه صابئ ؟
قال صلّى الله عليه وسلّم: (( إنّهم ليقولون ذلك )).
قال: فأشهد أنّك نبيّ، وأشهد أنّ ما جئت به حقّ، وأنّه لا يفعل ما فعلت إلاّ نبيّ، وأنا متّبعك.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ذلِكَ يَوْمَكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ أَنِّي قَدْ ظَهَرْتُ فأْتِنا ))[1].
هذا الرّجل الرّاعي ذكر البزّار في روايته أنّه يُدعى أبا معبد رضي الله عنه، وهو قول قريب، وإن كان في القصّة اختلاف، فإنّما ذلك لأجل الاختصار.
فقد روى أبو نعيم في "الدّلائل" (1/337)، والحاكم، والطّبراني وغيرهم:
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا خرج مهاجرا هو وأبو بكر رضي الله عنه ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة، ودليلهم اللّيثي عبد الله بن الأريقط، فمرّوا على خيمتَي أمّ معبد الخزاعية، وكانت برزة [أي: المرأة الّتي لا تحتجب مع عفافها] جلدة [أي: قويّة]، تحتبي بفناء الخيمة، ثمّ تسقي وتطعم.
فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى شاة في تلك الخيمة فقال: (( مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ ؟ )). قالت: شاةٌ خلّفها الجهد عن الغنم.
قال: (( هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ )) ؟ قالت: هي أجهد من ذلك.
قال: (( أَتَأْذَنِينَ أَنْ أَحْلِبَهَا ؟)) قالت: نعم بأبي أنت وأمّي إن رأيت بها حلبا.
فدعا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمسح بيده ضرعها، وسمّى الله عزّ وجلّ، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه [أي: فرجت رجليها للحلب] ودرّت.
فدعا بإناء يريض الرّهط [أي: يروي الجماعة]، فحلب فيها ثجّا [لبنا سائلا كثيرا]، حتّى علاه البهاء [وهو بريق رغوة الحليب]، ثمّ سقاها حتّى رويت، وسقى أصحابه حتّى ارتووا، ثمّ شرب آخرَهم، ثمّ أراضوا [أعادوا]، ثمّ حلب ثانيا بعد بدء حتّى ملأ الإناء، ثمّ ارتحلوا عنها.
فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق غنما أعجافا.
فعجب ! وقال: من أين هذا والشّاة عازب حائل [أي: لم تحمل]، ولا حلوبة في البيت ؟
قالت: لا والله، إلاّ أنّه مرّ بنا رجل مبارك. فقال: صفيه لي يا أمّ معبد !
قالت: رأيت رجلا طاهر الوضاءة، أبلج [أي: مشرق الوجه]، حسن الخلق، لم تُعِبْهُ ثجلة [أي بدانة]، ولم تُزْرِ به صَعْلَة [نحافة]، في عينيه دَعَجٌ [شدّة السّواد]، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صهل [ليس برقيق ولا بشديد]... إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلّم علاه البهاء، أجمل النّاس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم من قريب، له رفقاء يحفون به، إن قال أَنْصَتُوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود ولا عابس ولا معتد.
فقال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الّذي ذكر لنا من أمره، ولقد هممت بأن أصحبه، ولأفعلنّ إن وجدت إلى ذلك سبيلا.. فسمعه النّاس يقول:
جزى الله ربّ البيت خير جزائـه *** رفيقيـن قالا خيمتـي أمّ معبـد
سـلوا أختكم عن شائها، وإنائها *** فإنّكم إن تسألوا الشّـاة تشهـد
دعـاها بشـاة حائـل، فتحلّبت *** عليه صريحا، صرّة الشّـاة مزبـد
وبلغت هذه الأبيات شاعرَ المدينة حسّان بن ثابت رضي الله عنه فقال:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم *** وقدس من يسـري إليهم ويغتدي
ترحل عن قوم، فزالت عقولهم *** وحلّ على قوم بنـور مـجـدّد
هداهم به بعد الضّلالة ربـهم *** وأرشدهم، من يتبع الحق يـرشـد
نبيّ يرى ما لا يرى النّاس حوله *** ويتلو كتاب الله في كلّ مشـهـد
وإن قال في يوم مقالة غائـب *** فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
وأكمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سيْرَه إلى المدينة، وربّما صادف النّاس في الطّريق، فكان أبو بكر يتولّى الكلام معهم.
ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: أبو بكر شيخ يُعرف، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يعرف، فكان الرّجل يلقى أبا بكر فيقول: يا أبا بكر ! من هذا الرّجل الّذي بين يديك ؟ فيقول: هذا الرّجل يهديني السّبيل. فيحسب الحاسب أنّه إنّما يعني الطّريق، وإنّما يعني سبيل الخير.
فمرّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد خروجه من مكّة بعسفان، ثمّ جاوز قديدا، ثمّ الخرار، ثم جاوز ثنية المرّة، ثمّ أخذ على طريق يقال لها "المدلجة" ثمّ طريق "العرج"، وسلك ماء يقال له "الغابر" عن يمين "ركوبة"، حتّى طلع على بطن "رئم".
وقد كان صلّى الله عليه وسلّم في طريقه قد لقي ابن عمّته زوج أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم.
روى البخاري عن عروةَ بنِ الزّبيرِ أَنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لَقِيَ الزُّبَيْرَ رضي الله عنه فِي رَكْبٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ مِنْ الشَّأْمِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَأَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه ثِيَابَ بَيَاضٍ.
وواصل سيره حتّى بلغ ديار بني عمرو بن عوف قبل القائلة.
وبوصوله صلّى الله عليه وسلّم إلى هذه الدّيار بدأت مرحلة جديدة من مراحل سيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم .. فقد بدأت المرحلة المدنيّة..
وهذا ما سوف نكمل الحديث عنه لاحقا إن شاء الله تعالى.