وفي رواية ابن إسحاق عن رجال من بني ساعدة قالوا:
" لمّا سمعنا بمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة، وتوكّفنا قُدُومَه، كنّا نخرج إذا صلّينا الصّبح إلى ظاهر حرّتنا، ننتظر رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، فوالله ما نبرح حتّى تغلبنا الشّمس على الظّلال، فإذا لم نجد ظلاّ دخلنا، وذلك في أيّام حارّة ..".
ووصل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مشارفَ المدينة وقت القائلة يومَ الإثنين من شهر ربيعٍ الأوّل.
ولم يتّجه إلى المدينة فوراً كما هو منتظَر، ولكنّه انحرف إلى قباء، بديار بني عمرو بن عوف.
لم يره أحدٌ؛ لأنّهم أنهكهم حرّ الظّهيرة .. لم يره أحد من الأنصار، ولا من المشركين .. إلاّ يهوديّ رآه ..
كان فوق حِصْنٍ من حصونهم، وهم قوم لا يعيشون إلاّ في قرى محصّنة .. ربّما لشدّة حِرصِهم على الحياة، فيظنّون أنّ الموت يترقّبهم في كلّ لحظة !
أو ربّما كانوا يعتقدون أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه، وأنّ بقيّة البشر لا يستحقّون شرف العبيش معهم ..
يقول عروة في حديثه: فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ، أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم، مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمْ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ ! هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ ! [جدّكم: حظّكم، وصاحب دولتكم الّذي تنتظرونه].
قال: فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ، فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لِلنَّاسِ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه [أي: إنّ الكثيرين كانوا يظنّون أبا بكر رضي الله عنه هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم].
في رواية ابن إسحاق: ومعه أبو بكر رضي الله عنه في مثل سنّه، وأكثرُنا لم يكن رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك، وركبه النّاس - أي ازدحموا عليه - وما يعرفونه من أبي بكر، حتّى زال الظلّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقام أبو بكر رضي الله عنه فأظلّه بردائه، فعرفناه عند ذلك.
وفي رواية عروة: حَتَّى أَصَابَتْ الشَّمْسُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عِنْدَ ذَلِكَ.
وشاع الخبر ..
سمع الجميع بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقُبَاء، حتّى بلغ الخبرُ يهوديّا آخر، فلم يتمالك، حتّى انطلق إلى ابنِ عمٍّ له كان يجلس بين نخل، فقال: يا بني قَيْلَةَ [هو اسم الجدّة الكبرى للأنصار]، والله إنّهم لمجتمعون الآن بقباء على رجل قدم من مكّة يزعمون أنّه نبيّ !..
ولا أحد منّا يعرف ما الّذي حدث لذلك اليهوديّ عند سماعه الخبر، ولكنّنا نعلم ونعْجَب ممّا حدث لأحد عبيده !
فقد كان هناك عبدٌ كادحٌ حزينٌ على إحدى النّخل .. سمع الخبرَ فأخذَتْه رِعدةٌ هزّته حتّى كاد يسقط من على النّخلة !
لكنّه تماسك حتّى انحدر عنها.. إلاّ أنّه لم يتمالَكْ نفسَه حتّى صرخ وهو يسأل فرحا:" ماذا تقول ؟ ماذا تقول ؟ "..
إنّه عبدٌ كتب الله له أن يفُوقَ الملوك، حتّى قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَوْ كَانَ الإِيمَانُ بالثُّرَيَّا لَنَالَه رِجَالٌ مِنْ هَؤُلاَءِ، وفي رواية:لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسٍ )) [رواه التّرمذي بسند صحيح].
إنّه سلمان الفارسيّ رضي الله عنه ..
يُخبرنا عن ذلك اليومِ بنفسه في حديث طويل رواه الإمام أحمد .. يحدّثنا بعدما انتقل من راهب إلى آخر حتّى حضرت الوفاةُ آخِرَ الرُّهبان المستمسِكِين بالحقّ، قال رضي الله عنه:
" فَلَمَّا حَضَرَ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ فَأَوْصَى بِي إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَمَا تَأْمُرُنِي ؟
قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى، يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ. فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ.
قَالَ: ثُمَّ مَاتَ فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا، وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا ! فَكُنْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، وَلَمْ يَحِقْ لِي فِي نَفْسِي.
فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي.
فَأَقَمْتُ بِهَا، وَبَعَثَ اللهُ رَسُولَهُ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ، لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ [نخل] لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ:
قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ ! وَاللهِ إِنَّهُمْ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ !
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ، حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي ! وَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ ؟ مَاذَا تَقُولُ ؟! فَغَضِبَ سَيِّدِي، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا ؟ أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ !
قَالَ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ.
وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ، أَخَذْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ بِقُبَاءَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ:
إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ.
قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لِأَصْحَابِهِ: (( كُلُوا ))، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ.
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ !
ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا، قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ.
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ ! ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ؟ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم اسْتَدَرْتُهُ، عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ ! فَعَرَفْتُهُ ! فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( تَحَوَّلْ )) فَتَحَوَّلْتُ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي ".
منزله في قباء ومدّة لبثه بها:
يذكر ابن إسحاق أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل فيما يذكرون على كلثوم بن هَدْمٍ أخي بني عمرو ابن عوف.
وقيل: بل نزل على سعد بن خيثمة. ويُجمع بينهما أنّه صلّى الله عليه وسلّم نزل على كُلثوم بن هَدْم، حتّى إذا خرج من منزل كلثوم جلس النّاس في بيت سعد بن خيثمة، وذلك لأنه كان عزباً لا أهل له.
قال عروة كما في الصّحيح: فَلَبِثَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم.
ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ.
وفي رواية ابن إسحاق: أنّه خرج يوم جمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاّها بوادي رَانُونَاء، فكانت أوّل جمعةٍ صلاّها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الهجرة.