الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فضابط السّفر المبيح للقصر، وإفطار الصّائم، وغير ذلك من الأحكام مرجعُه إلى العرف، فما كان في عُرفِ النّاس أنّه سفرٌ، فهو كذلك، وإلاّ فلا.
قال ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد" (1/481):
" ولم يحدّ صلّى الله عليه وسلّم لأمّته مسافةً محدودةً للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السّفر والضّرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمّم في كلّ سفر ..."اهـ.
وملخّص كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله:
" فالواجب: الرّجوع إلى ما يصدُقُ عليه أنّه سفر، كما أنّه لا يُطلق على من خرج إلى الأمكنة القريبة من بلده لغرض من الأغراض أنّه سفر، فليس في نصوص القرآن والسنّة حدّ زمانيّ ولا مكانيّ، ولا تفريق بين سفر طويل أو قصير، كما لم يفرّق الله في قوله:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} بين ماء وماء، ولم يفرّق في المسح على الخفّين بين خفّ وخفّ، فكذلك نقول: كلّ اسم ليس له حدّ في اللّغة ولا في الشّرع فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفرا في عرف النّاس فهو السّفر الذي علّق الشّارع به الحكم" ["مجموع الفتاوى" (24/13،40)].
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله في "المحلّى" (5/21):
".. لا حدّ لذلك أصلا إلاّ ما سُمّي سفرا في لغة العرب الّتي بها خاطبهم صلّى الله عليه وسلّم، إذ لو كان لمقدار السّفر حدٌّ غير ما ذكرنا لما أغفل صلّى الله عليه وسلّم بيانه ألبتّة، ولا أغفلوا هم سؤاله صلّى الله عليه وسلّم عنه، ولا اتّفقوا على ترك نقلٍ تحديده في ذلك إلينا.."اهـ.
وعليه، فإن كان انتقال هذا الأخ الكريم من بلديّته إلى غيرها يُعدّ سفرا، فهو مسافرٌ، ويحلّ له الفطر.
وإن لم يُعدّ في العُرف مسافرا، فلا يحلّ له الفطر، ولو تكرّر تنقّله ذلك في اليوم مرّات؛ لأنّه لا يُعدّ مسافرا.
ولو علّقْنا جواز الفطر بتنقّله المتكرّر، لكان الحكم معلّقاً بالمشقّة لا بالسّفر، وهو مخالف للنصّ والإجماع.
أمّا وقد شقّ عليه الصّوم، وشرب، فهو أدرَى بحاله:
أ) فإن كان قد شقّ عليه حتّى خَشِي الهلاك فهو غير آثم، بل أخذ بما يجب عليه، وهو في حكم المريض حينئذ، داخل في قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فيقضِي ذلك اليوم.
ب) أمّا إن كانت المشقّة طبيعيّةً، فقد شاركه فيها غيرُه، وما سمّي شهرَ الصّبر إلاّ لذلك، فهو حينئذ آثمٌ بفطره.
والله تعالى أعلم.