شرح الحديث:
- قوله: ( رديفه ): أي راكب خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
- و( الرَّحْل ) أكثرُ ما يستعمل للبعير، لكنّ معاذا رضي الله عنه كان في هذه القصّة رديفَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على حمار؛ بدليل رواية أخرى عند البخاري في " كتاب الجهاد ".
- قوله: ( لبّيك وسعديك ): اللَّبُ - بفتح اللاّم - معناه الإجابة، والسّعد: المساعدة.
كأنّه قال لباً لك وإسعادا لك، ولكنّهما ثُنّيا على معنى التّوكيد والتّكثير، أي إجابة بعد إجابة، وإسعادا بعد إسعاد.
ونظائر ذلك كثيرة في كلام العرب، نحو قولهم: حنانيك ودواليك، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4]، وهو أحسن ما حُمِل عليه قوله تعالى:{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَب} [البقرة: من الآية90].. وبه يفسّر دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيت السّجدتين: (( رَبِّي اغْفِرْ لِي، رَبِّي اغْفِرْ لِي ))، فليس المراد أنّه قالها مرّتين، وإنّما قالها عدّة مرّات.
- قوله: ( صِدْقاً ): فيه احتراز عن شهادة المنافق.
- وقوله: ( مِنْ قَلْبِه ): فيظهر صدقه في أعماله وأقواله، وقد دلّت الأدلّة القطعيّة عند أهل السنّة على أنّ طائفة من عصاة المؤمنين يعذّبون، ثمّ يخرجون من النّار بالشّفاعة، ولأجل خفاء ذلك لم يؤذن لمعاذ رضي الله عنه في التّبشير به.
- قوله: ( إذا يتكلوا ) وهو جواب وجزاء، أي: إن أخبرتهم يتّكلوا، وهو شاهد لنصب المضارع بـ(إذن).
- وفي رواية ( يَنْكُلوا) : بإسكان النّون وضمّ الكاف، أي: يمتنعوا من العمل اعتمادا على ما يتبادر من ظاهره.
- ( تأثّما ): قال الإمام المنذري رحمه الله:" أي: تحرّجا من الإثم، وخوفا منه أن يلحقه إن كتمه ".
ثمّ قال رحمه الله بعد ذلك:
" وقد ذهب طوائف من أساطين أهل العلم إلى أنّ مثل هذه الإطلاقات الّتي وردت فيمن قال:" لا إله إلاّ الله " دخل الجنّة، أو حرّم الله عليه النّار، ونحو ذلك، إنّما كان في ابتداء الإسلام حين كانت الدّعوة إلى مجرّد الإقرار بالتّوحيد، فلمّا فرضت الفرائض، وحُدَّت الحدود، نُسِخ ذلك.
والدّلائل على هذا كثيرة متظاهرة، وقد تقدّم غير ما حديث يدلّ على ذلك في كتاب "الصّلاة"، و"الزّكاة"، و"الصّيام"، و"الحجّ"، ويأتي أحاديث أخر متفرّقة إن شاء الله. وإلى هذا القول ذهب الضحّاك، والزّهري، وسفيان الثّوري، وغيرهم.
وقالت طائفة أخرى: لا احتياج إلى ادّعاء النّسخ في ذلك، فإنّ كلّ ما هو من أركان الدّين وفرائض الإسلام هو من لوازم الإقرار بالشّهادتين وتتمّاته، فإذا أقرّ ثمّ امتنع عن شيء من الفرائض جحدا أو تهاونا على تفصيل الخلاف فيه حكمنا عليه بالكفر، وعدم دخول الجنّة، وهذا القول أيضا قريب.
وقالت طائفة أخرى: التلفّظ بكلمة التّوحيد سبب يقتضي دخول الجنّة والنّجاة من النّار، بشرط أن يأتي بالفرائض ويجتنب الكبائر، فإن لم يأت بالفرائض ولم يجتنب الكبائر لم يمنعه التلفّظ بكلمة التّوحيد من دخول النّار، وهذا قريب ممّا قبله، أو هو هو.
وقد بسطنا الكلام على هذا والخلاف فيه في غير ما موضع من كتبنا، والله سبحانه وتعالى أعلم "اهـ.
فملخّص الأقوال الواردة في توجيه هذه الأحاديث ثمانية أقوال، ذكر منها المؤلّف رحمه الله ثلاثة:
الأوّل: أنّ ذلك كان قبل نزول الفرائض، وهو قول ضعيف جدّا.
الثّاني: أنّه مقيّد بالنّصوص الأخرى الموجبة للعمل.
الثّالث: أنّ النّطق بالشّهادة سبب، والعمل شرط.
الرّابع: منها أنّ مطلقه مقيّد بمن قالها تائبا ثمّ مات على ذلك.
الخامس: أنّه خرج مخرج الغالب، إذ الغالب أنّ الموحّد يعمل الطّاعة ويجتنب المعصية.
السّادس: أنّ المراد بتحريمه على النّار تحريم خلوده فيها، لا أصل دخولها.
السّابع: أنّ المراد بالنّار هي النّار الّتي أعدّت للكافرين، لا الطّبقة الّتي أفردت لعصاة الموحّدين.
الثّامن: أنّ المراد بتحريمه على النّار حرمة جملته؛ لأنّ النّار لا تأكل مواضع السّجود من المسلم كما ثبت في حديث الشّفاعة أنّ ذلك محرّم عليها.
وأولاها بالقبول هو القول الثّاني والثّالث، والعلم عند الله تعالى.
أمّا من قال: إنّها منسوخة ! فإن كان المراد بالنّسخ التّقييد والتّخصيص كما هو في عبارة السّلف فصحيح، وإلاّ فهو قول بعيد.
قال الشّيخ الألبانيّ رحمه الله في تعليقه على ذلك:
" قلت: الأحاديث الّتي أشار إليها المؤلّف ليس فيها ما يدلّ على النّسخ المُدّعى، وإنّما فيها وجوب أشياء لم تُذكر في أحاديث الباب، وهذا لا يستلزم النّسخ كما لا يخفى.
كيف ومن رواتها أبو هريرة، وصحبته متأخّرة عن أكثر الفرائض ؟! فإنّه أسلم قبل وفاته صلّى الله عليه وسلّم بثلاث سنوات، وقصّته مع عمر في منعه إيّاه أن يُبلّغ النّاس فضل الشّهادة إنّما كانت في المدينة حينما دخل حائطا للأنصار يبتغي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي معروفة في "صحيح مسلم" (1/44) وغيره.
وفي "المسند" نحوها بين أبي موسى الأشعريّ وعمر أيضا، وكان قدومه في السّنة الّتي قدم فيها أبو هريرة - كما في "الفتح" - وقد خرّجتها في "الصّحيحة" (1314)، وفيه قصّة أخرى بين جابر وعمر من حديث جابر نفسه، وهو أنصاريّ، ممّا يؤكّد أنّ القصّة وقعت في المدينة، وأنّ الحديث غير منسوخ، فراجع تمام هذا في المصدر المذكور آنفا "اهـ.
من فوائد الحديث:
1- في الحديث دليل على فقهِ معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ إذ كان يراعي أفهام النّاس، وحتّى عندما أخبرهم بالحديث نراه قد كساه ترهيبا ببيان سبب تأخيره.
في رواية للإمام أحمد بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه قال:" أنا ممّن شهد معاذا حين حضرته الوفاة يقول: أخبركم بشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لم يمنعْنِي أن أحدّثكموه إلاّ أن تتّكلوا، سمعته يقول: (( مَنْ شَهِدَ ... ))" الحديث ["الصّحيحة" رقم (1314)].
2- وفيه جواز الإرداف، إذا لم تكن هناك فتنة،وقد أردف خلفه أسامة بن زيد، والفضل بن عبّاس، وكلّهم صبية لم يناهزوا الحلم، وهذا القيد مهمّ، كما قيّد النّووي جواز الإرداف بما إذا كانت مطيقة، فالقيد الّذي ذكرناه أولى.
3- وفيه بيان تواضع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ كان يركب البغال والحمير.
4- وفيه منزلة معاذ بن جبل رضي الله عنه من العلم؛ لأنّه خصّه بما ذكر.
5- وفيه منقبةٌ لعُمر رضي الله عنه؛ إذ هذا معدود من موافقاته رضي الله عنه، حيث كان قد أشار إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بألاّ يُخبر النّاس بهذا الحديث لئلاّ يتّكلوا.
والله تعالى أعلم.