شرح الحديث:
- قوله: (الكديد أو القُديد) ليس تنويعا في اسم المكان، وإنما هو شكّ في المكان نفسه، فالكديد ماء بين عُسفان وقُديد - كما قال البخاريّ رحمه الله -، وقد مرّ به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يومَ خرج إلى مكّة في رمضان، ( فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ، فَأَفْطَرَ النَّاسُ ) [رواه البخاري ومسلم].
وقد جاء في سبب ورود هذا الحديث أنّه أخبرهم وبشّرهم بعدما رهّبهم، ففي الأصل قال رفاعة رضي الله عنه:
أقبَلْنَا مع رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْكَدِيدِ، أو قال: بِقُدَيْدٍ، فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنَّا يَسْتَأْذِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ، فَيَأْذَنُ لَهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قالَ:
(( مَا بَالُ رِجَالٍ يَكُونُ شِقُّ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَلِي رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَبْغَضَ إِلَيْهِمْ مِنْ الشِّقِّ الآخَرِ ؟!)) فَلَمْ نَرَ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ الْقَوْمِ إِلَّا بَاكِيًا، فقالَ رجلٌ: إِنَّ الَّذِي يَسْتَأْذِنُكَ بَعْدَ هَذَا لَسَفِيهٌ. فَحَمِدَ اللهَ، وقالَ خَيْرًا، وقالً:
(( أَشْهَدُ عِنْدَ اللهِ: لَا يَمُوتُ عَبْدٌ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، ثُمَّ يُسَدِّدُ، إِلَّا سُلِكَ فِي الْجَنَّةِ، وقدْ وَعَدَنِي رَبِّي عزّ وجلّ أَنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا حَتَّى تَبَوَّءُوا أَنْتُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ وَذُرِّيَّاتِكُمْ مَسَاكِنَ فِي الْجَنَّةِ )).
- وقوله: ( ثمّ يسدّد ) أي: يستقيم على صراط الله، والسّداد هو الاستقامة دون إفراط ولا تفريط، ومنه ما رواه الشّيخان عن أبِي هريرةَ رضي الله عنه عنْ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ )).
- وقوله: ( سُلِك في الجنّة ): أي: وفّق لدخولها والمشي فيها، والأصل أنّ ( سلك ) بمعنى المرور بالشّيء ومجاوزته، ومنه السّلوك، لأنّها الصّفات الّتي يمشي عليها المرء، وقد غلب استعمالها في المرور إلى خير.
الحديث الخامس:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنْ دَهْرِهِ، يُصِيبُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ )).
[رواه البزّار، والطّبراني، ورواته رواة " الصّحيح "].
ومعنى هذا النّفع أنّ المسلم إن كان ممّن أسرف على نفسه بالذّنوب، واستحقّ دخول النّار، فإنّه سيأتي اليوم الّذي يُخرجه الله تعالى منها.
وهذا من بركات الدّعوة إلى التّوحيد، فكفى أهلَ السنّة فخرا أنّ أعظم ثمرات دعوتهم أنّها تُنجِي المستمسِك بكلمة التّوحيد من النّار.
روى ابن ماجه عن حذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ رضي الله عنه قالَ: قال رسولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ عزّ وجلّ فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ ( لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ) فَنَحْنُ نَقُولُهَا )).
فَقَالَ لَهُ صِلَةُ - الرّواي عنه -: مَا تُغْنِي عَنْهُمْ ( لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ) وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ ؟! فَأَعْرَضَ عَنْهُ حذيفَةُ رضي الله عنه، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ:" يَا صِلَةُ تُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ " - ثَلَاثًا -.
ويقصد رضي الله عنه بقوله: ( تنجيهم من النّار ) حديثَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الطّويلَ في الشّفاعة، فقد روى البخاري ومسلم عنْ أبي سعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنَّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:
(( إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، يَقُولُ اللهُ: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ ! فَيَخْرُجُونَ قَدْ امْتُحِشُوا - أي: احترقوا - وَعَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ – وهو: ما يحمله الماء من طين، فإنّها تخرج صفراء من بين السّواد -.
نسأل الله تعالى أن يُحيِيَنا ويتوفّانا على كلمة التّوحيد، إنّه سميع مجيب.