شرح الحديث:
بعدما ذكر المصنّف رحمه الله الأحاديث الدالّة على أعظم فضلٍ لكلمة التّوحيد وهو النّجاة من النّار ودخول الجنّة - وسيذكر غيرها - أتى بالأحاديث الدالّة على الأجر المترتّب على النّطق وترديد اللّسان بها.
- قوله: ( ما قال عبدٌ لا إلهَ إلاّ اللهُ قط مخلصا ) أي من غير رياء وسمعة، ومؤمنا غير منافق.
- ( إلاّ فتحت له ) أي: فتِحت لهذا الكلام أو القول، وهذا دلالة على سرعة قبولها، مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ تُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ ))، و(( أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ تُفَتَّحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ )).
- قوله: ( حتّى يُفضي ): من الإفضاء، أي يصل، ومنه قوله تعالى:{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض} [النساء: من الآية 21]، أي: وصل.
وإذا قُبِلت وضاعف الله أجرَها محت السّيئات، ولكن بشرط، وهو:
- ( ما اجتنبت الكبائر ): أي ذلك مدّة تجنّب قائلها الكبائر من الذنوب.
لذلك فسّر قتادة وغيره قوله تعالى:{وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: من الآية70] بكلمة لا إله إلاّ الله، قال تعالى:{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71].
الحديث السّابع:
عن جابِرِ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:
(( أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ للهِ )).
[رواه ابن ماجه، والنّسائي، وابن حبّان في "صحيحه"، والحاكم، كلّهم من طريق طلحة بن خراش عنه، وقال الحاكم:"صحيح الإسناد"].
شرح الحديث:
- قوله: ( أفضل الذّكر لا إله إلا الله ) وذلك لوجوه عديدة:
أ) لأنّه لا يصح الإيمان إلا بها.
ب) لأنّها المنجية في الدّنيا والبرزخ والآخرة: أمّا في الدّنيا فهي عاصمة للنّفس والمال والأهل والعرض، حتّى إنّ المنافقين تشبثوا بها. وأمّا في البرزخ فلن يثبّت الله إلاّ من أقامها:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، والقول الثّابت هو لا إله إلاّ الله.
ت) ولأنّها تطهّر الباطن عن الأوصاف الذّميمة الّتي هي في الحقيقة تُعبد من دون الله، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}.
ث) أنّها أشدّ شيء على الشّيطان الرّجيم، ولذلك كان إذا سمع الأذان الّذي حوى الجهرَ بتوحيد الله انصرف وله ضراط.
ولذلك أيضا كانت جلسة التشهّد ساعة عذاب عليه، لأنّ خاتمتها (لا إله إلاّ الله) وفيها يشار بالسبّابة إلى التّوحيد.
روى الإمام أحمد عن نافِعٍ قال: كَانَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رضي الله عنه إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ وَأَتْبَعَهَا بَصَرَهُ، ثُمّ قال: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَهِيَ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ الْحَدِيدِ - يَعْنِي السَّبَّابَةَ -)).
ج) أنّ النّطق بها أعلى شعب الإيمان كما مرّ.
ح) ولأجلها كانت آية الكرسيّ أعظم آية في القرآن.
خ) أنّ قولها من أعظم ما يطرد الهمّ، روى البخاري ومسلم عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: كانَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ يقولُ: (( لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ )).
وغير ذلك من الأسباب ممّا يصعب حصره.
- وقوله: ( وأفضل الدّعاء: الحمد لله ) فللعلماء في معنى ذلك قولان:
الأوّل: أنّه الحمد المعروف، وهو وصف الممدوح بالكمال، والثّناء عليه وشكره، فهو مثل قوله تعالى:{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ}، فجعل الله أحسنَ وأكملَ دعائهم الحمد.
والثّاني: أنّ المراد به سورة الفاتحة، من باب التّلميح والإشارة إلى قوله عزّ وجلّ:{اِهْدِناَ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
والصّواب هو الأوّل، ومنشأ الغلط: أنّهم ظنّوا أنّ الدّعاء نوع واحد، وإنّما هو نوعان - كما سيأتي في كتاب "الدّعاء"-: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فإنّ من حمد الله إنّما يحمده على نعمته، والحمد على النّعمة طلبٌ للمزيد فهو دعاء، قال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}.
لذلك روى ابن ماجه عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قالَ: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ ))، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قالَ: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ )).