شرح الحديث:
- قوله: ( عن عبد الله ) هو ابن مسعود رضي الله عنه. ويُخطئ الكثيرون فيعُدّونه من العبادلة الأربعة، والصّواب أنّ العبادلة من الصّحابة هم: ابن عبّاس، وابن عمر، وابن عَمْروٍ، وابن الزّبير رضي الله عنهم.
وإنّما لم يكُن ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأنّه ليس من أقرانهم.
- قوله: ( مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ ...) الحسنة: لفظٌ عامّ يشمل كلّ فعل حسن، والسيّئة لفظ عامّ يشمل كلّ فعل سيّء.
وإنّما فسّر ابن مسعود رضي الله عنه الآيةَ بالتّوحيد وما يقابله وهو الشّرك؛ لأنّ التّوحيد أعظم حسنةٍ يَلْقَى العبدُ بها ربَّه، والشّرك أعظم سيّئة يلقاه بها.
والدّليل على أنّ الحسنة في الآية تشمل كلّ حسنة فهمُ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم للقرآن، فقد روى البخاري ومسلم عن أبِي هُرَيْرةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ذكر عن ربّه سبحانه أنّه قالَ في الصّيام: (( وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا )).
وقال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه ينهاه عن صيام الدّهر: (( وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ )) [رواه الشّيخان].
وقال في صوم أيّام شوّال بعد رمضان: (( مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ تَمَامَ السَّنَةِ، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا )) [رواه ابن ماجه عن ثوبان رضي الله عنه].
نعم، قد تطلق السّيئة ويراد بها الشّرك كما قال ابن عبّاس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]، ولكن حديث الباب أعمّ.
ولعلّ النّكتة في تفسير ابن مسعود رضي الله عنه للحسنة بأنّها ( لا إله إلاّ الله ): أنّ الله سيُجازي عبدَه الموحِّدَ لكلمة التّوحيد بعشر أمثالها، ففي الصّحيحين عن عبدِ اللهِ بنِ مسعُودٍ رضي الله عنه قال: قالَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا:
رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللهُ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ ! فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى.
فَيَرْجِعُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَجَدْتُهَا مَلْأَى ! - يفعل ذلك ثلاث مرّات - فيقولُ اللهُ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا ! فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي - أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي - وَأَنْتَ الْمَلِكُ ؟!
قال: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَكَانَ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: (( ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً )).
الحديث التّاسع:
عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ:
(( إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُولُهَا عَبْدٌ حَقًّا مِنْ قَلْبِهِ فَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ حُرِّمَ عَلَى النَّارِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ )).
[رواه الحاكم، وقال: " صحيح على شرطهما "، وروياه بنحوه].
شرح الحديث:
في هذا الحديث اشتراط الصّدق بقوله: ( حَقًّا )، وذلك لا يكون إلاّ بالعمل بمقتضاها.
وقد بيّن أبو بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه معنى حقّ (لا إله إلاّ الله)، وذلك فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هرَيْرَةَ رضي الله عنه قال:
لَمَّا تُوُفِّيَ رسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم - وكَانَ أبو بكْرٍ رضي الله عنه - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ العَرَبِ، فقالَ عُمَرُ رضي الله عنه: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ )).
فَقال رضي الله عه: واللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا.
قَالَ عمَرُ رضي الله عنه:" فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ ".
- قوله: ( وروياه بنحوه ): قال الشّيخ الألبانيّ رحمه الله:" قلت: أي من حديث عتبان بن مالك، وهذا معنى كلام الحاكم، وتمامه " من حديث عتبان بن مالك .. وليس فيه ذكر عمر ". فكان ينبغي على المصنّف ذكر هذا لكي لا يُفهم كلامُه على خلاف مرامه .. "اهـ.