وتقع به أفضل العبادات على الإطلاق.
وجعله منطلقا لجيوش الفتوح الّتي تفتح الحقول.
وجعله دارا للعلم تفتح القلوب والعقول.
وجعله منبرا للوعظ والتّعليم.
وجعله ملتقًى للمؤمنين والصّالحين، فما لم يلتق المسلمون يوميّا على مرّات متعدّدة في بيت من بيوت الله، تتساقط بينهم فوارق الجاه، فإنّه لا يمكن لروح التآلف والتآخي أن تثبت.
ولكنّ المسجد يحتاج إلى أيّام لإتمام بنائه، فكان لا بدّ أن يختار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيتا من بيوت بني النجّار منزلا له ولصاحبه أبي بكر رضي الله عنه.
ففي صحيح البخاري من حديث أنَسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: قالَ نَبِيُّ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ ؟)). فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ رضي الله عنه: أَنَا يَا نَبِيَّ اللهِ، هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي، قالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا ))، قالَ: قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ.
فحلّ بدار أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه .. الجميع يغبطه .. فالمدينة كانت قلوبها بيوتا، وبيوتها قلوبا ..
ولندخلْ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى دارِ أبي أيّوب رضي الله عنه، الّذي ضرب أرْوعَ المثل في الحبّ والتّعظيم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ففي صحيح مسلم عنْ أبي أيُّوبَ رضي الله عنه أنَّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم نَزَلَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فِي السُّفْلِ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعِلْوِ، قَالَ: فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَةً، فَقَالَ:" نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم !" فَتَنَحَّوْا، فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ.
ثُمَّ أخبر النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فقالَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( السُّفْلُ أَرْفَقُ )). فقالَ: لَا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا !.
فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فِي الْعُلُوِّ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ.
فَكَانَ يَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم طَعَامًا، فَإِذَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم ؟ فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ، فَفَزِعَ ! وَصَعِدَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ )) قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ.
قالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُؤْتَى [أي: يأتيه الملك].
وتمّ بناء المسجد ..
تمّ بناء المسجد على مراد الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم: بيتٌ من طين لا يشوبه حديد، ولا رخام، ولم تنفق لأجله الأموال الضِّخام..
جاء في صحيح البخاري أنّ عبدَ اللهِ بنَ عمَرَ رضي الله عنه قال: إِنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ.
ولكن هل يمكن أن يكون المسجد وحدَه جامعاً لقلوب الغرباء ؟ هل يمكن أن يُكتفى ببناء الطّوب وترك القلوب ؟
عمق المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
أدرك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه لا بدّ من جمع القلوب بعضها على بعض، فآخى بين المهاجرين والأنصار ..
ففي صحيح البخاري ومسلم وسنن النّسائي - واللّفظ له - عن أنسٍ رضي الله عنه قال:
آخَى رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، فَآخَى بينَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ وعبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، فقالَ لهُ سَعْدٌ: إِنَّ لِي مَالًا، فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَانِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ، فَأَنَا أُطَلِّقُهَا، فَإِذَا حَلَّتْ فَتَزَوَّجْهَا.
قالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ ! دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ. فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى رَجَعَ بِسَمْنٍ وَأَقِطٍ - هو اللّبن المجفّف - قَدْ أَفْضَلَهُ.
من أجل ذلك قال تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
من أجل ذلك ثبت لهم أعظم الشّرف، ففي الصّحيحين عنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ )).
وفي الصّحيحين عن البَرَاءِ رضي الله عنه قال: سمعْتُ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللهُ )).
وبهذا يكون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد وضع الأساسين العظيمين الَّذَين يقوم عليهما المجتمع المسلم:
مسجد يجمعهم على طاعة الله علاّم الغيوب، ومؤاخاة تتماسك فيها القلوب ..
وكانت المؤاخاة الّتي عقدها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار مؤاخاةً خاصّةً، ولم تكن شعارات جوفاء، أو مقالات بتراء، حتّى صارت من أسباب الميراث بينهم ! حتّى نزل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} [النّساء: من الآية33].
روى البخاري عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه في قوله تعالى:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: وَرَثَةً {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال:كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَتْ، ثُمَّ قَالَ:{وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} مِنْ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِي لَهُ.
وروى أبو داود عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال:{وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}: كَانَ الرَّجُلُ يُحَالِفُ الرَّجُلَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ، فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَنَسَخَ ذَلِكَ الْأَنْفَالُ، فَقَالَ تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.
وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كلّهم يبتغي أن يكون ممّن قال فيهم المولى تبارك وتعالى:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:110]..
فلم يبق بمكّة منهم أحدٌ إلاّ مفتون أو محبوس ..
ولم يخرج أهلُ بيتٍ بأجمعِهم بأهلِهم وأموالهم إلاّ أهلُ دورٍ معيّنون، منهم: بنو مظعون، وبنو جحش، وبنو البُكير من بني سعد، فإنّ ديارهم خلت ليس بها ساكن.
أمّا في المدينة، فلم يبق دارٌ من دور الأنصار إلاّ أسلم أهلُها، إلاّ ما كان من خطمة، وواقف، ووائل، وأميّة، وهم حيّ من الأوس، فإنّهم أقاموا على شركهم.
وكان لا بدّ من ضبط أمور الدّولة الإسلاميّة الفتيّة، فجاء بعد ذلك الأساس الثّالث، وهو ما يحفظ العدل بين المسلمين وغيرهم:
كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم..
قد ذكر ابن إسحاق رحمه الله الكتابَ الّذي كتبه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دون إسناد، وذكره ابن خيثمة بسند ضعيف، لكن مجموع ما جاء فيه تشهد له الأحاديث الكثيرة.
من تلك البنود الّتي قام عليها الميثاق بين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبين اليهود:
1- المسلمون من قريش ويثرب ومن تبِعَهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أمّةٌ واحدة من دون النّاس.
أي: إنّ الإسلام هو وحده الّذي يجمع بين النّاس، وجميع الفوارق تذوب في هذه الوحدة الشّاملة.
2- المسلمون على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم، ويَفدون عانِيَهم بالمعروف. [يتعاقلون: أي يدفعون الدّية بعضهم عن بعض، والعانِي هو الأسير].
3- أنّ الجار كالنّفس غير مضارّ ولا آثم.
وهذان البندان يدلاّن على أنّ أهمّ سمات المجتمع المسلم هو التّكافل والتّضامن، فهم جميعا مسئولون عن بعضهم في شؤون دنياهم وآخرتهم، حتّى قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ، وَتَوَادِّهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )) [رواه الشّيخان عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه].
وقال: (( إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا - وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ -)) [رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه].
وهذا شيء لم يعهدوه من قبل في مجتمع الغاب، يأكل فيه القويّ الضّعيف..
4- لا يُقتَلُ مؤمنٌ بكافرٍ، ولا يُنصَر كافرٌ على مؤمن.
5- المدينة حرم: من أحدث فيها، أو آوى محدِثاً، فعليه لعنة الله، والملائكة، والنّاس أجمعين، لا يُقبَل منه صرفٌ ولا عدلٌ.
فلم تعُد حرمتُها بحكم القبيلة والعشيرة، ولكن عادت لها حرمة شرعيّة.
6- لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، إلاّ من ظلم وأثم؛ فإنّه لا يُوثِغ إلاّ على نفسه وأهل بيته. [يوثغ: يهلك].
وهنا تمّت المصالحة بين المسلمين واليهود على ألاّ يقتل بعضهم بعضا، ولا يعين بعضهم على بعض.
7- ذمّة المسلمين واحدة، يُجِير عليهم أدناهم، وهم يَدٌ على من سواهم.
8- كلّ ما كان من اختلاف أو شجار، فمردّه إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
9- المؤمنون على من بغى عليهم، وأنّ أيديهم عليه جميعا ولو كان ولدَ أحدهم.
ومضى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يؤكّد كلّ ذلك بعقد البيعة على الرّجال والنّساء، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12].
هذا هو حال المؤمنين أيّام هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأولى .. فكيف هو حال غيرهم من المعاندين والمشركين ؟
هذا ما سوف نراه لاحقا إن شاء الله.