لذلك كان من محاسن نزول القرآن أنّ أوّل سورة نزلت بالمدينة كانت سورة البقرة؛ ذلك لأنّها تحمل في طيّاتها شُهُباً تكشف ما انطوت عليه نفوس اليهود، ففضحت طرقَهم وأساليبَهم، وبيّنت حبائلهم وألاعيبهم.
فتحدّثت السّورة عن كفرهم بالله عزّ وجلّ، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وصدّهم عن سبيل الله، وتمرّدهم في كلّ مرّة على كليم الله، وتحريفهم لكتاب الله، وخاصّة نراها تندندن حول خصلة لا تفارقهم وهي نقض الميثاق{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100].
فكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم على أهبة لانقلاب اليهود عليهم في عشيّة أو ضحاها..
وفاجأت سورةُ البقرةِ الجميعَ إذ كشفت لهم عن قوم مُذَبْذَبين بين المؤمنين واليهود والكافرين .. قوم لم يظهر لهم وجود بعد .. ولكنّهم لن يتأخّروا فيظهرون .. قوم أطالت مقدّمة السّورة في بيان حالهم:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} .. وكان على رأس هؤلاء رجلٌ يُدعى عبدَ الله بنَ أبيّ ابنَ سلول .. فمن هذا الرّجل ؟ وما قصّته ؟
وكي نعرِف هذا الرّجل فإنّه لا بدّ من الحديث عن:
الأوس والخزرج:
كان أهمّ ما أثلج الله به صدورَ المسلمين، وأقرّ به عيونَ المؤمنين: أن وحّد بين الأعداء الّذين طالت بينهم الحروب السّاخنة، ونشبت بينهم الحروب الطّاحنة.
إنّهم الأوس والخزرج: الّذين كانت بينهم حروبٌ مريرة أوشكت أن تُفنيَهم.. وكانت يتخلّل تلك الحروب مراحل من الهدنة والفتور.. تختبئ نارها تحت رماد التعقّل أحيانا، والملل أحيانا أخرى .. وكانت آخر وقعة بينهم يوم بُعاث .. حيث قُتِلَ سادةٌ وأشرافٌ من كلا القبيلتين.
في تلك السّنوات - وبالضّبط خمس سنوات قبل الهجرة - هدأت فيها الحرب بين الأوس والخزرج ..
سنوات قليلة قبل الهجرة قرّر الأوس والخزرج أن يكونَ زعيمُ يثرب وسيّدُها هو عبدَ الله بنَ أبيّ ابن سلول ..
ولكن ما من شيء من ذلك قد حدث .. لقد كانت الأنظار كلّها متوجّهة إلى مكّة حيث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.. وحدثت البيعة ثمّ الهجرة .. وصارت القلوب كلّها متعلّقة بالقائد الجديد الّذي لن يقودهم إلى أمن الدّنيا فحسب، ولكن إلى أمن الدّنيا والآخرة..
ولا شكّ أنّ قلب هذا الرّجل لن يحتمل وهو يرى تاجَه تدوسه الأقدام ! وتتبخّر معه جميع الأحلام ! وكأنّي به يتمنّى لو لم يَطُل به العُمُر ليرى كلّ ذلك.
ولكنّه قاصر عن إدراك الحقّ .. فقد كان بإمكانه أن يُصبح زعيما مخلّدا لو مدّ يده إلى يد النبي صلّى الله عليه وسلّم بصدق، ولكنّه أبى واستكبر وكان من الكافرين !
وسنرى أنّه لا بدّ أن يُظهر الإسلامَ إلى حينٍ ليعصِمَ دمَه ومالَه، وأنّه كان أوّل بذرة من بذور النّفاق.
ولم تتبخّر في الحقيقة أحلام هذا الرّجل فحسب، وإنّما تبخّرت أيضا أحلام غيره، فإنّ هناك من يشاركه هذا الشّعور، ويدعو على نفسه بالويل والثّبور، وهم:
اليهود: الّذين قال فيهم الله تعالى:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية 89].
وهذا ما جعل الوثنيّين من أهل المدينة يُقبِلون على الإيمان، لسماعهم أخباره عن أهل الأديان .. وكان من بين هؤلاء الّذين كانوا ينتظرون قدوم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليهم:
أسد، وأسيد، وثعلبة:
ثلاثة من الشّباب ليسوا من اليهود، ولكنّهم عاشوا معهم ليفوزوا بنبيّ آخر الزّمان ..
روى ابن إسحاق والبيهقيّ في "الدّلائل" أنّ ثعلبة بنَ سَعْنَة، وأُسَيْدَ بنَ سعْنَة، وثعلبة بن عُبَيْد، نفرٌ من بني ذُهْلٍ أَتَوْا بني قريظة، قالوا:
إنّ رجلا من يهود أهل الشّام يقال له: ابن الهيبان، قدم علينا قبل الإسلام بسنتين فحلّ بين أظهرنا، والله ما رأينا رجلا قط أفضل منه، فأقام عندنا.
فكنّا إذا قحط المطر قلنا له: يا ابن الهيبان ! قُم فاستق لنا. فيقول: لا والله ! حتّى تقدّموا بين يدي مخرجكم صدقة.
فيقولون: كم ؟ فيقول: صاعا من تمر، أو مدّين من شعير عن كلّ إنسان، فنخرجها.
فيخرج بنا إلى ظاهر حرّتنا، فيستسقي لنا، فوالله ما يبرح من مجلسه حتّى يمرّ السّحاب السّراح سائلة، ونسقي به، ففعل ذلك غير مرّة ولا مرّتين ولا ثلاثا.
ثمّ حضرته الوفاة، فلمّا عرف أنّه ميّت قال: يا معشر يهود ! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض الجوع والبؤس ؟
قلنا: الله أعلم. قال: فإنّي قدمت إلى هذا البلد لتوكّف خروج نبيّ قد أظلّ زمانه، هذه البلد مهاجره، فكنت أرجو أن يُبعث فيكم فأتّبعه، وقد أظلّكم زمانه، فلا يسبقنّكم إليه يا معاشر اليهود أحد ".
- ومن بين اليهود الّذين أدركوا صدق دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أخبار اليهود طفلة بريئة لم تلوّثها أحقاد اليهود.. ظلّت على النّقاء والصّفاء، فكانت اسما على مسمّى .. إنّها:
صفيّة بنت حُييّ بن أخطب رضي الله عنها..
والدها وعمّها زعيمان من زعماء يهود بني قريظة .. وكانت أحبّ إليهما من كلّ أحد .. يهشّون للقائها، ويبشّون لرؤيتها .. إلاّ في يوم تتذكّره صفيّة جيّدا .. لم يفعلا ذلك، فعلِق بذهنها عبوسُهما على غير عادتهما !
روى ابن إسحاق وأبو نعيم والبيهقيّ أنّها قالت:
" لم يكن من ولد أبي وعمّي أحدٌ أحبَّ إليهما منّي، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلاّ أخذاني دونه.
فلمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قباء، ونزل بقرية بني عمرو بن عوف، غدا إليه أبي وعمّي أبو ياسر بن أخطب مغلِّسين، فوالله ما جاءانا إلاّ مع مغيب الشّمس !
جاءانا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى ! فهشَشْتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إليّ واحد منهما !
فسمعت عمّي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو ؟ قال: نعم والله ! قال: تعرفه بعينه وصفته ؟ فقال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه ؟ قال: عداوته والله ما بقيت ! ".
وصدق الله تعالى القائل:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} [البقرة].
ومن اليهود الّذين أسلموا:
سلمة بن سلام بن وقش: الّذي قال - كما عند ابن إسحاق والبيهقيّ -:" والله ما ذهب اللّيل والنّهار حتّى بعث الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم وهو حيّ بين أظهرنا، فآمنّا به وكفر به من كفر بغيا وحسدا ".
فاليهود كانوا ينتظرون النبيّ منهم ليسحقوا به العرب وسائر الأمم .. فكيف يؤمنون بنبيّ يجعل العرب سادة الدّنيا وقادة العالم ؟!
فقالوا: لا لنبيٍّ من ولد إسماعيل .. إلاّ أنّ هناك من لم يقل ذلك، ولم يقع معهم في المهالك، إنّه:
عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
عالمٌ من علماء اليهود، وحَبْرٌ من أحبارهم، يحدّثنا عن أوّل يوم رأى فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم .. روى التّرمذي وغيره عن عبدِ اللهِ بنِ سلامٍ رضي الله عنه قال:
لَمَّا قَدِمَ رَسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم المَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ! قَدِمَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ! قَدِمَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم!
فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: (( أَيُّهَا النَّاسُ ! أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ )).
كلماتٌ هزّت قلبه، وشرحت صدره .. كلماتٌ قليلة تذوب فيها كلّ دعاوى العدل والسّلام والإصلاح ..
أيّ مجتمعٍ هذا الّذي سيُولد بين قوم تفشو بين أهله السّلام، وتصل يدُه إلى الأرامل والأيتام، ويشقّ الطّرقات بين الأقارب والأرحام ..
وعندما يهدأ النّهار، ويأوي إلى خبائه، وتسكن الطّيور في الأوكار، تُحلّق أرواح المؤمنين إلى ربّها رغباً ورهباً ..
أدرك أنّ هذا ليس من وضع البشر، فما كان منه إلاّ أن أقبل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعرض إسلامه لله عزّ وجلّ.
روى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه قال: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ بِقُدُومِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَأَتَاه فَقَالَ:
إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ ؟
قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ )).
قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونِي.
فَجَاءَتْ الْيَهُودُ، فقالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ ؟)).
قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا.
قَالَ: (( أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ ؟)).
فَقَالُوا: أَعَاذَهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ !
فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه فَقال: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.
فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا ! وَانْتَقَصُوهُ.
قَالَ: فَهَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللهِ.