" ولهذا كنت أقول للجهميّة من الحلوليّة والنّفاة الذّين نفوا أنّ الله تعالى فوق العرش لمّا وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرا؛ لأنّي أعلم أنّ قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنّكم جهّال، وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم.
وأصل جهلهم شبهات عقليّة حصلت لرؤوسهم، في قصورٍ من معرفة المنقول الصّحيح والمعقول الصّريح الموافق له وكان هذا خطابنا، فلهذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتّكفير بمثله".
2- وقال في "بغية المرتاد" (311):" وبيّنا أنّ المؤمن الذّي لا ريب في إيمانه قد يُخطئ في بعض الأمور العلميّة الاعتقاديّة، فيُغفَر له كما يغفر له ما يخطئ فيه من الأمور العملية، وأنّ حكم الوعيد على الكفر لا يثبت في حقّ الشّخص المعيّن حتّى تقوم عليه حجّة الله الّتي بعث بها رسله، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}...".
3- وقال بعد ذكر مقالات الباطنية في "بغية المرتاد" (1/353-354):" فهذه المقالات هي كفر، لكن ثبوت التّكفير في حقّ الشّخص المعيّن موقوف على قيام الحجّة الّتي يكفر تاركها، وإن أُطْلِقَ القولُ بتكفير من يقول ذلك فهو مثل إطلاق القول بنصوص الوعيد، مع أنّ ثبوت حكم الوعيد في حقّ الشّخص المعيّن موقوف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه ...".
4- وقال - كما في "مجموع الفتاوى" (11/401) وقد سئل عمّن يزعم سقوط التّكاليف الشّرعيّة عنه:
" لا ريب عند أهل العلم والإيمان أنّ هذا القولَ من أعظم الكفر وأغلظه، وهو شرّ من قول اليهود والنّصارى "، ثمّ ذكر رحمه الله ألوانا من الموبقات الّتي يستبيحها هؤلاء النّاس، ثمّ قال (11/406):
" لكن من النّاس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يُعذَر به، فلا يُحكم بكفرِ أحدٍ حتّى تقوم عليه الحجّة من جهة بلاغ الرّسالة، كما قال تعالى:{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وقال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}؛ ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أنّ الصّلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أنّ الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتّى تبلغه الحجّة النبويّة "اهـ.
5- وقال - كما في مجموع الفتاوى (12/466) -:" وليس لأحدٍ أن يكفّر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقامَ عليه الحجّة وتُبيّن له المحجّة، ومن ثبت إسلامُه بيقين لم يزُلْ ذلك عنه بالشكّ؛ بل لا يزول إلاّ بعد إقامة الحجّة، وإزالة الشّبهة ".
6- وقال في " الردّ على البكريّ " (1/413):" ومن أنكر ما ثبت بالتّواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجّة عليه ".
7- وقال في " الردّ على البكريّ " (2/731-732) بعدما ذكر مظاهر كثيرة للشّرك:" وأنّ ذلك من الشّرك الّذي حرّمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلّة العلم بآثار الرّسالة في كثير من المتأخّرين لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتّى يتبيّن لهم ما جاء به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ممّا يخالفه، ولهذا ما بيّنت هذه المسألة قطّ لمن يعرف أصل الإسلام إلاّ تفطّن وقال هذا أصل دين الإسلام ".
8- وقال في موضع آخر:" إنّي دائما - ومن جالسني يعلم ذلك منّي - أنّي من أعظمِ النّاس نهياً عن أن يُنسَب معيّنٌ إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلاّ إذا عُلِم أنّه قد قامت عليه الحجّة الرّسالية ".
نصوص عن الشّيخ محمّد بن عبد الوهاّب رحمه الله في العذر بالجهل:
1- قال – كما في "الدّرر السنيّة "-(1/102-104):" وإذا كنّا لا نكفّر من عبد الصّنم الّذي على قبّة عبد القادر، والصّنم الّذي على قبر أحمد البدويّ وأمثالَهما لأجل جهلهم وعدم من ينبّههم، فكيف نكفّر من لم يشرك بالله ...".
وفي بعض النّسخ" " لأجل جهلهم وعدم من يفهّمهم ".
2- وقال رحمه الله (1/73) (1/82):" وأمّا التّكفير: فأنا أكفّر من عرف دين الرّسول، ثمّ بعد ما عرفه سبّه، ونهى النّاس عنه، وعادى من فعله، فهذا: هو الذّي أكفِّر، وأكثر الأمّة ولله الحمد ليسوا كذلك".
3- وقال (1/100):" وأمّا القول: أنّا نكفّر بالعموم ؟ فذلك من بهتان الأعداء، الذّين يصدّون به عن هذا الدّين؛ ونقول:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] ".
4- وقال (10/113):" وأمّا ما ذكر الأعداء عنّي، أنّي أُكَفِّر بالظّنّ وبالموالاة، أو أكفّر الجاهل الذّي لم تقم عليه الحجّة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير النّاس عن دين الله ورسوله ".
5- وقال (10/128):" وإنّما نكفّر من أشرك بالله في إلهيّته، بعدما نبيّن له الحجّة على بطلان الشّرك ".
ومن أقوال عبد الله ابن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب -كما في الدّرر السنية (10/251)-:" وليعلم من أنعم الله عليه بمعرفة الشّرك، الّذي يخفى على أكثر النّاس اليوم، أنّه مُنِح أعظمَ النِّعَم ".
***
ثمّ قال رحمه الله:
وفي الحديثِ (( الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة ))، والدّليلُ قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
الشّرح:
هذا أوانُ تفصيل الكلام عن أنواع العبادة الّتي أمر الله تعالى بها، والّتي لا يحلّ لأحدٍ أن يصرف شيئا منها لغير الله عزّ وجلّ، وإلاّ وقع في الشّرك، وجانب التّوحيد.
فبدأ بالدّعاء، وذلك لسببين:
1- لأنّ جلّ العبادات مرجعها إليه، كالاستعانة، والاستغاثة، والاستعاذة، والتوكّل، والرّجاء، وغير ذلك.
2- لأنّ الدّعاء أهمّ مظاهر العبادة كما سبق بيانه مرارا؛ فالدّعاء متضمّن للافتقار، والتضرّع، والعلم بأسماء الله تعالى وصفاته كالسّمع والبصر والعلم والقدرة.
لذلك كان أحبّ العبادات إلى الله تعالى، كما في الحديث الّذي رواه التّرمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنْ الدُّعَاءِ ))، وفي الحديث الآخر (( مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ )) [رواه التّرمذي].
لذلك ذكر رحمه الله حديث: (( الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة )).
وهذا الحديث رواه التّرمذي عن أنسٍ رضي الله عنه، وهو بهذا اللّفظ ضعيف، ولكنّ معناه صحيح.
واللّفظ الصّحيح للحديث هو ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السّنن إلاّ النّسائيّ عن النّعمَانِ بنِ بشِيرٍ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ ))، {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
- قوله: (( الدّعاء )): لغة هو النّداء، ومنه قوله تعالى في ندائه عباده لطاعته:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: من الآية24]، وقوله:{وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: من الآية25].
وجرى على ذلك كلام العرب، حتّى صار يسمّون طلب الحضور (دعوة)، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ )) [متّفق عليه]، ومنه طلب حضور الزّوجة، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ )) [متّفق عليه]، وغير ذلك.
هذا إذا افترق اللّفظان، أمّا لو اجتمعا فلكلّ لفظ معناه الخاصّ، كقوله تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاء} [البقرة: من الآية171]، فالدّعاء هنا للقريب، والنّداء للبعيد.
ثمّ صار الدّعاء عند الإطلاق هو نداء العباد ربَّهم.
والدّعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة.
أمّا دعاء المسألة: فهو دعاء الطّلب، أي: ما يستدعي مطلوبا من المولى عزّ وجلّ، لجلب نفع أو كشف ضرّ. وهو الّذي لا يفهم عامّة النّاس غيره.
ودعاء العبادة: وهو: أ) إمّا بالجوارح، كالصّلاة، والصّوم، وغير ذلك من العبادات، وسمّيت دعاءً لأنّ العبد يسأل الله تعالى بحاله لا بمقاله.
ب) وإمّا باللّسان، وهو ذكر الله والثّناء عليه دون أن تذكر مطلوبا، فتناديه بأسمائه وصفاته، لتُثْنِي عليه، والثّناء يتضمّن دعاءً، ومنه حديث: (( خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )).
ومنه حديث: (( دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ}، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ )).
ومنه ما رواه البيهقيّ عن سعد بنِ أبي وقّاص رضي الله عنه أنّ أعرابيّا قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: علّمني دعاءً لعلّ الله أن ينفعني به ؟ قال: (( قُلْ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ )).
وكلا النّوعين مطلوب، وفيه مرغوب، لا يجوز الاقتصار على أحدهما، لأنّ الله يحبّ الثّناء والمدح، وفي الوقت نفسه يحبّ أن يُسألَ، ولذلك أمر بدعائه في أكثر من موضع.
والفاتحة اشتملت على النّوعين معا.
قال ابن القيّم رحمه الله في " زاد المعاد " (1/235):".. الدّعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة، والنبيّ كان يُكثِر في سجوده من النّوعين، والدّعاء الّذي أمر به في السّجود يتناول النّوعين ".
- وقوله: (( هوَ العِبَادَة )) فيه مبالغة في تعظيم شأن الدّعاء، والعرب إذا أرادت المبالغة في شيء حصرت الممدوح في الصّفة، ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( الحَجُّ عَرَفَةُ )) [أخرجه أهل السّنن والإمام أحمد]، مع انّ الحجّ يشمل أعمالا أخرى، ولكنّه جعل الوقوفَ بعرفة أعظم مناسك الحجّ. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( الدِّينُ النَّصِيحَةُ )) للتّنويه بمنزلة النّصيحة.
فكذلك العبادة تشمل أعمالا وأقوالا كثيرة، ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جعل الدّعاء على رأسها.
بل جرى القرآن الكريم على تسمية الدّعاء عبادة والعبادة دعاء، ومنه الآية الّتي تلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:{وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، أي: صاغرين.
ومثله قوله تعالى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:77].. فقد فسّر قوله تعالى:{لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} في أحد القولين بالعبادة، أي: أيّ شيء خلقكم الله لأجله ؟ ألحاجة ؟ ألضعف ؟ إنّما خلقكم لتعبدوه، ولكنّكم كذّبتم فسوف يكون عذابكم لزاما.
- قوله: ( ثمّ قرأ:{وَقَالَ رَبُّكُمْ}): الّذي ربّاكم، وربّى العالمين جميعهم بنعمه.
- قوله:{اُدْعُونِي}: اسألوني، واعبدوني. ولم يجعل بينه وبين العباد وساطة.
- قوله:{أَسْتَجِبْ لَكُمْ} والاستجابة أيضا نوعان:
استجابة دعاء الطّالب بإعطائه سؤاله، واستجابة دعاء المُثْنِي والعابد بالثّواب.
وبكلّ واحد من النّوعين فُسِّر كذلك قولُه تعالى:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، قال ابن القيّم:" والصّحيحح أنّه يعمّ النّوعين ".
وفي هذا الحديث تحذير لطائفتين:
الأولى: المتقاعسة عن الدّعاء، وكأنّ الّذي لا يبدأ أموره بتوكّله على الله ودعائه فيه استكبار عياذا بالله.
الثّانية: المشركة في الدّعاء. فمن صرف شيئا من الدّعاء لغير الله، فقد عبد غير الله، قال تعالى:{وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وقال عزّ وجلّ:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}، قال ابن القيّم رحمه الله في "البدائع" (3/524):
" أخبر أنه لا يحبّ أهل العدوان وهم الّذين يدعون معه غيرَه، فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا فإن أعظم العدوان الشّرك، وهو وضع العبادة في غير موضعها "اهـ.
ولذلك شدّد الأئمّة في هذه العبادة ليسدّوا باب الشّرك، ومن مظاهر سدّ الذّرائع:
أ) ما ذكره ابن القيّم في "إغاثة اللّهفان" (ص 201) عن الأئمّة الأربعة في الدّعاء وقت زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّه يستقبل القبلة وقت الدّعاء، حتّى لا يدعو عند القبر، فإنّ الدّعاء عبادة ".
ب) تحريم التوسّل بالمخلوق، ولو كان نبيّا، لذا قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله:" لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلاّ به، وأكره أن أقول: بمعاقد العزّ من عرشك أو بحقّ خلقك ..."، والمراد بالكراهة هنا التّحريم.
ج) تنصيب شخص للدّعاء. كأن يُجعل طلب الدّعاء منه عادةً.
وقد ذكر الإمام الشّاطبيّ رحمه الله في " الاعتصام " آثارا في امتناع الصّحابة رضي الله عنهم من الدّعاء لمن سأله منهم.
روى الطبري عن مدرك بن عمران، قال: كتب رجل إلى عمر رضي الله عنه: ادعُ الله لِي، فكتب إليه عمر:" إنّي لست بنبيّ، ولكن إذا أقيمت الصّلاة فاستغفر اللهَ لذنبك ".
وعن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنّه لمّا قدم الشّام أتاه رجل، فقال: استغفر لي، فقال: غفر الله لك، ثمّ أتاه آخر، فقال: استغفِرْ لي، فقال: لا غفر الله لك، أنبيّ أنا ؟!
فامتناعهم لم يكن لذات الدّعاء، وإنّما هو خشيةَ أن يُعتقَدَ فيه أنّه مثل النبيّ، أو أنّه وسيلة إلى الله سبحانه، أو يعتقد أنه سنّة فيلتزمها النّاس.
يقول الشّيخ مبارك الميلي رحمه الله في " رسالة الشّرك ومظاهره " (ص 281):
" وقد وُجد في عصرنا من الطرقيّين والمرابطين من ينتصب للدّعاء، ويصرّح بكونه واسطةً بين الله وخلقه في جلب المحبوب ودفع المكروه، فإذا رضي عن أحد ضمِن له ما يشتهي من حاجات من الدّنيا ونعيم الآخرة، وإذا غضب عن آخر توعّده بحلول النّقمة، ورضاه وغضبه تابعان لمطامعه فيما في أيدي النّاس.
ورأينا من الجهّال المعتقدين في لصوص الدّين هؤلاء من يبذل فوق طاقته طلبا لرضاهم عنه، وفوزه بدعوة منهم له، ويشتري ما ينتسب إليهم من شمع وبخور مزايدةً بأرفع الأثمان؛ ليقوم ذلك الشّيء المُشترى مقامَ دعوة صاحبه.
ففي الانتصاب للدّعاء وسؤاله ذريعةٌ إلى الشّرك والعياذ بالله ".
ثمّ قال رحمه الله (ص 285):
" ولقد فشا في المسلمين دعاءُ غير الله على شدّة إنكار كتابهم له، وتحذير نبيّهم منه، حتّى صار الجهلة ومن قرُب منهم يؤْثِرونه على دعاء الله وحده !
والاستشهاد لذلك بالحكايات عنهم واستيعابها مملّ معجز، فلنقتصر على حكاية واحدة.
الحكاية العاشورية:
ففي سنة سبع وأربعين، قُتل شيخنا محمّد الميلي رحمه الله، فأتيت من الأغواط. وجاء للتعزية الشيخ عاشور صاحب "منار الأشراف"، وملقّب نفسه (كليب الهامل)، والهامل قرية بالحضنة قرب أبي سعادة بها زاوية كانت تمدّه بالمال.
فحضرتُ مجلسهُ ولم أُشْعِرْه بحضوري ... وذلك لئلاّ يحترز في حديثه أو نقع في حديث غير مناسب للمقام.
سمعت في ذلك المجلس بأذنَيّ (كليبَ الهامل) يحكي مناقضاً لدعوة الإصلاح الّتي اشتهرت يومئذ:
أنّ شيخا من شيوخ الطّرق الصّوفية كان مع مريديه في سفينة، فهاج بهم البحر وعلت أمواجه، فلجئوا جميعا إلى الله يسألون الفرج والسّلامة.
وكان الشّيخ منفردا في غرفة يدعو، فلم تنفرج الأزمة، وعادتُه أن لا يُبْطَأ عليه بالإجابة، فوقع في رُوعِه أنّه أُتِيَ من قِبَلِ أتباعه، لا لنقص فيه يوجب هذا الإعراض عنه !
فخرج على أتباعه مُغضباً يقول: ماذا صنعتم في هذه الشدّة ؟ فقالوا: دعونا الله مخلصين له الدّين بلسان المضطرّين - إشارة لقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}. فنَكِر عليهم اللّجوءَ إلى الله مباشرة ! ووبّخهم عليه ! وعرّفهم أنّ ذلك هو الحائل دون استجابة دعائه ! وأنذرهم عاقبة استمرارهم على التوجّه إلى ربّهم، وأنّه الغرق ! وعلّمهم أنّ واجبهم هو التوجّه إليه وسؤاله، ثمّ هو وحده يتوجّه إلى الله !
فتابوا من دعاء الموحّدين، وامتثلوا تعليم الشّيخ المخالف لتعليم ربّ العالمين ! وعاد الشّيخ إلى غرفته يدعو متوسّطا بين الله وبين مريديه ! فانكشفت الغمّة وسلمت السّفينة. وحمد الشّيخ ثقتَه بنفسه وفقهَه سِرّ البطء عن استجابة دعائه، وتفقيهَه لأتباعه سرّ النّجاة، وصرفَهم إلى الثّقة به عن الثقة بالله !
هذا معنى ما سمعته من (كليب الهامل) ... يستدلّ الشيخ عاشور وأتباعه بأمثال هذه الحكاية على لزوم التعلّق بشيوخ الزّوايا وتوسيطهم بين العباد وربّهم ! ناسخين بها نصوصَ الشّريعة الكثيرة المحكمة، وتتلقّفها منهم العامّة بقلوبها، وتتمسّك بها في الاحتجاج لإيثار دعاء غير الله، وتعتقد أنّ ذلك أليقُ بحالها من أن تُخاطب بنفسها أرحم الرّاحمين ! سنّة المشركين من قديم ..."اهـ