الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد: وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته.
فالجواب عن سؤالك - أخي الكريم - يكون من طريقين:
• الطّريق الأوّل: طريق التأصيل.
وذلك بأن يعقِد المسلم قلبَه على أصلين من أصول هذا الدّين الحنيف:
الأصل الأوّل: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما لحق بالرّفيق الأعلى حتّى بيّن لأمّته كلّ ما يتعلّق بأمور دينِها، فما ترك شيئا يدلّنا على الله جلّ جلاله إلا بيّنه واستحبّه لنا، ولا شيئا يبعّدنا عن الله إلاّ أظهره ونهانا عنه، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}.
فالدّين تامّ كامل، حنيف شامل، وفروعه كثيرة، ومسائله ثرّة غزيرة، فلنحرِص على ما شُرع منه، فإنّ فيه كفايةً وغُنيةً.
الأصل الثّاني: أنّ العبادات: إثباتها، أو إثبات عددها، أو صفتها، أو وقتها إنّما يؤخذ من الأدلّة الشّرعيّة.
فلا تؤخذ من الرّأي مهما بدا للنّاظر قوّته، فالرّأي محكوم لا حاكم.
ولا من الشّيخ، مهما علا كعبه في العلم، فنؤمن بعلوّ قدر العلماء ولا نؤمن بعصمتهم، ويستدلّ لهم لا بهم.
ولا تؤخذ من الذّوق مهما حلا طعمه، وتزيّن رونقه؛ فأساس الحلاوة حلاوة الإيمان بامتثال أمر الرّحمن وسنّة النبيّ العدنان صلّى الله عليه وسلّم.
وعليه، فإنّه لو ثبت عن الإمام أحمد رحمه الله ذلك فإنّه لا حجّة في قول أحد إلاّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما اتّفق عليه أصحابه الأبرار.
وإن تعجب فاعجب ممّن لا يستدلّ بمذهب الإمام أحمد رحمه الله إذا كان معتمده حديثا ضعيفا، ثمّ يستدلّ به من غير حديث !
• الطّريق الثّاني: طريق التّفصيل:
فاعلم أنّه قد نقِل ذلك عنه رحمه الله وعن غيره من الأئمّة، وهي من المسائل الّتي طال فيها الخلاف، وترى مظانّها في حكم إهداء القرآن للميّت.
جاء في " الشّرح الكبير " لابن قدامة (2/424) عندما ذكر قول من يُجيز ذلك:
" هذا هو المشهور عن أحمد، فإنّه روي عنه أنه قال: إذا دخلتم المقابر اقرأ آية الكرسي وثلاث مرار {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، ثمّ قل: اللهمّ إنّ فضله لأهل المقابر.
وروي عنه أنّه قال: القراءة عند القبر بدعة، وروي ذلك عن هشيم.
قال أبو بكر: نقل ذلك عن أحمد جماعة، ثمّ رجع رجوعا أبان به عن نفسه. فروى جماعة أنّ أحمد نهى ضريرا يقرأ عند القبر، وقال له: القراءة عند القبر بدعة. فقال له محمّد بن قدامة الجوهري: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبيّ ؟ قال: ثقة. قال: فأخبرني مبشّر عن أبيه أنّه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك ؟ فقال أحمد بن حنبل: فارجع فقل للرجل يقرأ " اهـ.
وكذا ذكر ابن مفلح في " الفروع "، والمرداوي في " الإنصاف " وغيرهم.
وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ومن تبعه، وطائفة من الشّافعيّة والمالكيّة.
وذهب الإمامان مالكٌ والشّافعيّ رحمهما الله وطائفة من أهل العلم المنتسبين إليهما إلى أنّه لا يجوز إهداء القرآن للموتى، وأنّه لا يصلهم كسائر الأعمال إلاّ ما استُثْنِي.
الحاصل:
فإذا اختلف أهل العلم في هذه المسألة، وجب الردّ إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
فلم يستدلّ من ذهب إلى جواز ذلك بشيء تقوم به حجّة، إلاّ آثار غير صحيحة، أو صحيحة ولكنّها غير صريحة.
ويبقى عموم قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )).
فتأمّل جيّدا الحصرَ في الآية، ثمّ تأمّله أيضا في الحديث، لتُدرك أنّ الأولى اتّباع النّصّ.
وخاصّة إذا علمنا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحريص على أصحابه ممّن سبقوه إلى الآخرة، ما كان يذهب إلى المقابر ويقرأ عليهم القرآن، ولو كان ثابتا لفعله ولو مرّة واحدة !!
وكذلك أصحابه رضي الله عنهم ممّن عُرِفوا بتحرّي العمل الصّالح، وحبّهم لإخوانهم الّذين سبقوهم بالإيمان، أفتراهم بخلوا عنهم بإهداء ثواب قراءة القرآن ؟!
ومن ذهب إلى الجواز متّبعا لطائفة من أهل العلم، فلا تثريب عليه، ويبقى أنّنا ندعوه إلى النّظر في الدّليل، لا إلى القائل.
والله تعالى الموفّق لا ربّ سواه.