الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد:
أوّلاً: فإنّه من كان منتسباً إلى منهج السّلف، وداعيا إليه، وبنَى أصولَه عليه، فلا يحلّ أن يُحكَم عليه بخلاف ما أظهره، ما لم يقُم الدّليل على خلاف زعمه؛ لأنَنا كُلِّفنا الحكمَ بالظّاهر، واليقين لا يزول بمجرّد الشكّ.
روى البخاري ومسلم عَنْ أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ )).
وروى الإمام مالك وأحمد عن عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيَارِ رضي الله عنه أنّهُ قال:
بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّاسِ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَارَّهُ، فَلَمْ يُدْرَ مَا سَارَّهُ بِهِ، حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ؟)).
فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلَى، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ.
فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟)).
قَالَ: بَلَى، وَلَا صَلَاةَ لَهُ.
فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْهُمْ )).
وهذا الّذي قرّره الأئمّة على مرّ العصور:
- فقد قال الإمام مالك رحمه الله: إنّ المانع من قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للمنافقين هو أنّه لا يجوز له أن يحكم فيهم بعلمه وإنّما بما ظهر له منهم.
- وقال الشّافعي رحمه الله في " الأمّ " (4/114):
" الأحكام على الظاهر، والله وليّ المغيّب، ومن حكم على الناس بالإزكان [أي: الباطن]، جعل لنفسه ما حظر الله تعالى عليه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّ الله عزّ وجلّ إنّما يُولِي الثّواب والعقاب على المغيّب؛ لأنّه لا يعلمه إلاّ هو جلّ ثناؤه، وكلّف العباد أن يأخذوا من العباد بالظّاهر، ولو كان لأحدٍ أن يأخذ بباطنٍ عليه دلالةً كان ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
... ذكر الله تبارك وتعالى المنافقين فقال لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} فأقرّهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يتناكحون، ويتوارثون، ويُسْهِم لهم إذا حضروا القسمة، ويحكم لهم أحكام المسلمين، وقد أخبر الله تعالى ذكره عن كفرهم، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّهم اتّخذوا أيمانَهم جنَّةً من القتل بإظهار الأيمان على الإيمان، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْ بِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ النَّارِ ))، فأخبرهم أنه يقضي بالظاهر ".
- وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يسأله أحدهم عمّن تستّر بمذهب السّلف فقال:
" لا عيبَ على من أظهر مذهبَ السّلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبولُ ذلك منه بالاتّفاق، فإنّ مذهبَ السّلف لا يكون إلاّ حقّا، فإن كان موافقا له باطنا وظاهرا فهو بمنزلة المؤمن الّذي هو على الحقّ باطنا وظاهرا، وإن كان موافقا له في الظّاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق فتقبل منه علانيته، وتُوكَلُ سريرتُه إلى الله، فإنّا لم نؤمر أن ننَقِّبَ عن قلوب النّاس، ولا أن نشقّ بطونهم ".
[" مجموع الفتاوى " (4/149)].
- وقد نقل ابن عبد البرّ رحمه الله اتّفاق العلماء على ذلك في " التّمهيد " (10/157) فقال:" وقد أجمعوا أنّ أحكام الدّنيا على الظّاهر، وإنّ السّرائر إلى الله عزّ وجلّ ".
ثانيا: اعلم - أخي الكريم - أنّ هذا المسلكَ، هو المسلكُ نفسُه الّذي اتّخذه جماعة التّكفير، فتراهم يردّدون أنّ فلانا إنّما يُظهر الإسلام ليحقُن دمَه وحكمه للبلاد، وهو لا يضمِر إلاّ الكفرَ والإلحاد !
فما يُجَاب به هؤلاء، يُجَابُ به أولئك، فإنّ التّبديع شقيق التّكفير، كلاهما من مسائل الأسماء والأحكام.
ثالثا: التستّر بالسنّة، وطريقة ( يتمسْكن حتّى يتمكّن )، إنّما تصلح زمن ظهور السنّة وأعلامها، ورفع راياتها، أمّا والفِرَقُ الضالّة قد أُخرِجَت عقائرُها، وأظهرت ما أكنّته ضمائرُها، فلم يبقَ هناك داعٍ للتستّر.
وإن كان كذلك فسيظهر مذهبُه في لحن القول، وخاصّة إذا باشر الدّعوة سنين وسنين.
والله تعالى الموفّق لا ربّ سواه.