شـرح الحديـث:
- ( صهباء ): من (الصُّهبة): كالشّقرة، وهي حمرة يعلوها سواد، كما قال ابن الأثير في "النّهاية".
- ( لا ضربَ ): أي: لا يُضرب النّاس وهم حوله يزدحمون عليه لرؤيته وأخذ مناسكهم عنه، كما يفعل حرّاس الملوك.
-( ولا طردَ ): أي ولا يطردون عنه ولا يُحجبون كما يفعل الملوك أيضا.
-( إَلَيْكَ إِلَيْكَ ): هو اسم فعل منقول من الجارّ والمجرور، ومعناه: تنحَّ وابتَعِدْ. كما قالوا: (عليك) بمعنى الزَمْ، ونقلوا من الظّرف فقالوا: (دونَكَ) بمعنى خُذْ، و(أمامك) بمعنى تقدّم، وغير ذلك.
وذكر بعضهم أنّه يحتمل أن يكون ذلك وصفا لناقة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: أنّها تمشي بتؤدة، لا يحثّها على السّير، ولا يأمرها بالتنحّي عن شيء لوقارها.
وعليه فيكون علاقة الحديث بالباب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يختار الدّواب الّتي تتّصف بالهدوء، على خلاف عادة الملوك يحجّون على الخيول الّتي تتّصف بالخيلاء.
والأوّل أقرب، لقوله: ( إليك إليك )، فإنّه خطاب لمن يعقِل.
والله أعلم.
*** *** ***
الحديث الرّابع:
1126-وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ:
كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ، فَقَالَ:
(( أَيُّ وَادٍ هَذَا ؟)) قَالُوا: وَادِي الْأَزْرَقِ. قَالَ:
(( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى صلّى الله عليه وسلّم - فَذَكَرَ مِنْ طُولِ شَعَرِهِ شَيْئًا لَا يَحْفَظُهُ دَاوُدُ - وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي )).
قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ، فَقَالَ:
(( أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ ؟)) قَالُوا: ثَنِيَّةُ ( هَرْشَى ) أَوْ ( لَفَتٍ ). قَالَ:
(( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وَخِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا )).
[رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، وابن خزيمة واللّفظ لهما].
ورواه الحاكم بإسناد على شرط مسلم ولفظه:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَتَى عَلَى وَادِي الأَزْرَقَ، فَقَالَ:
(( مَا هَذَا ؟ )).
قَالُوا: وَادِي الأَزْرَقِ. فَقَالَ:
(( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عليه السّلام مُهْبِطًا لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّكْبِيرِ )).
ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ [هَرْشَى]، فَقَالَ:
كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عليه السّلام عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ، خِطَامُهَا لِيفٌ، وَهُوَ يُلَبِّي وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ )).
شرح غريب الحديث:
- قوله: ( فَذَكَرَ مِنْ طُولِ شَعَرِهِ شَيْئًا لَا يَحْفَظُهُ دَاوُدُ ):
قال الشّيخ الألباني رحمه الله:" داود هذا هو ابن أبي هند، رواه عن أبي العالية عن ابن عبّاس، وفي رواية مجاهد عن ابن عبّاس رضي الله عنه: ( وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ، عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ ) اهـ.
قال المنذريّ رحمه الله:" و(الخُلبة)- بضمّ الخاء المعجمة وسكون اللاّم-: هي اللّيف كما جاء مفسّرا في الحديث ".
وهذا الوصف منه صلّى الله عليه وسلّم فيه إشارةٌ إلى أنّ موسى عليه السّلام كان تاركا لأنواع من الزّينة.
- ( جُؤَارٌ ): هو رفع الصّوت، ومنه قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65)}. قال ابن عيينة: يجأرون: يرفعون أصواتهم كما تجأر البقرة.
- قوله: ( إِصبِعيه ):" الأصبع " فيها عشر لغات: كسر الهمزة وفتحها وضمّها، مع فتح الباء وكسرها وضمّها، فهذه تسع، والعاشرة " أصبوع " على مثال عصفور.
- ( ثَنِيَّةٍ ): هي الطّريق العالي الوعر في الجبل، وفي خطبة الحجّاج:" أنا ابن جلا وطلاّع الثّنايا "، ممّا يدلّ على صعوبة ارتقائها.
- ( هرشى ) قال المنذري:"- بفتح الهاء وسكون الرّاء بعدهما شين معجمة مقصورة -: ثنيّة قريب (الجحفة)".
- و(لِفت)- بكسر اللاّم وفتحها أيضا -: هو ثنية جبل (قديد) بين مكّة والمدينة " اهـ.
الفوائد المستنبطة من الحديث:
-الفائدة الأولى: الشّاهد من هذه الحديث بيان ترك الأنبياء للزّينة، حتّى كان أحدهم يلبس جبّة من صوف، وخطام ناقته من ليف لا من جلد.
-الفائدة الثّانية: اقتداء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بإخوانه الأنبياء ووفاؤه لهم.
فتراه كأنّه يبكي على آثارهم، ويذكّر النّاس بأخبارهم ..
فكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يذْكُرهم ويذكر أحوالهم للنّاس .. فتسمعه يقول: (( رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ )).
ويقول: (( نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ { إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي })).
ويقول: (( وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ )).
ويقول: (( وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ثُمَّ جَاءَنِي الدَّاعِي لَأَجَبْتُ )).
وكان يقول: (( لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتًّى ))..
وكان يُشيد بنبيّ الله داود عليه السّلام فوصفه بحسن الصّوت، وكثرة الصّوم، وتحصيل أفضل الكسب.
فما من أحدٍ كان أحفظ منه صلّى الله عليه وسلّم للعهد.
- الفائدة الثّالثة: استحباب رفع الصّوت بالتّلبية، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في بابه.
- الفائدة الرّابعة: استحباب الزّيادة على مجرّد التّلبية.
فقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّكْبِيرِ )): فيه دليل على أنّ الملبّي لا يقتصر على التّلبية فحسب، بل يذكر الله تعالى بالأذكار المشروعة، كالتّكبير، والتّهليل، وغير ذلك.
وفي المسألة قولان لأهل العلم:
1) القول الأوّل: تُكره الزّيادة.
وهو قول الإمام مالك رحمه الله - على ما حكاه ابن عبد البرّ -، واختيار الطّحاوي فقال:
" أجمع المسلمون جميعا على هذه التّلبية، غير أنّ قوما قالوا لا بأس أن يزيد فيها من الذّكر لله ما أحبّ، وخالفهم آخرون فقالوا: لا ينبغي أن يزاد على ما علّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّاس، وبه نأخذ " اهـ.
واستدلّوا على ذلك:
- بما رواه البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يُهِلُّ مُلَبِّدًا يَقُولُ: (( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ )) لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ.
- وبما رواه الإمام أحمد أَنَّ سَعْدًا رضي الله عنه سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ ! فَقَالَ: إِنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ، وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم لَا نَقُولُ ذَلِكَ.
قالوا: فهذا سعدٌ رضي الله عنه قد كره الزّيادة في التّلبية.
2) القول الثّاني: أنّه لا بأس بالزّيادة على ذلك.
وهو قول محمّد بن الحسن، والثّوري، والأوزاعيّ، وعزاه الحافظ إلى الجمهور، وعزا التّرمذي إلى الشّافعي أنّه قال: فإن زاد في التلبية شيئا من تعظيم الله فلا بأس، وأحبّ إلي أن يقتصر على تلبية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
واستدلّوا:
- بحديث الباب: (( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عليه السّلام مُهْبِطًا لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّكْبِيرِ )).
- بما رواه البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: ( كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ ).
- ما رواه مسلم وأبو داود عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنه قال: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ.
- ما رواه أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنّ النَّاس كانوا يَزِيدُونَ: (( ذَا الْمَعَارِجِ )) وَنَحْوَهُ مِنْ الْكَلَامِ، وَالنَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَسْمَعُ فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا.
- ما رواه ابن الجارود في "المنتقى" عن جابرٍ رضي الله عنه قال: " وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ: ( ذَا المَعَارِجِ، ذَا الفَوَاضِلِ ) وَنَحْوِهِ وَالنَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَسْمَعُ فَلاَ يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا " [وصحّحه الألباني رحمه الله في "الإرواء" (4/209)].
- ما رواه النّسائي وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ فِي تَلْبِيَتِهِ: (( لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ )).
لذلك قال الحافظ في " الفتح ":
" وهذا يدلّ على أنّ الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضلُ لمداومته هو صلّى الله عليه وسلّم عليها، وأنّه لا بأس بالزّيادة، لكونه لم يردّ عليهم، وأقرّهم عليها وهو قول الجمهور، وبه صرّح أشهب ".
قال القاري في " المرقاة " بعد ما ذكر قول الطّحاوي السّابق:
" ولعلّ مراده من الكراهة أن يزيد الرجل من عند نفسه على التلبية المأثورة ".
وبالجواز قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في (26/114-115) من " مجموع الفتاوى ".
تنبيه: قوله رحمه الله:" رواه ابن ماجه " علّق على ذلك الشّيخ الألباني رحمه الله فقال:
" قلت: هو كما قال، لكنّه أبعد النّجعة في عزوه إليه فقط، فقد أخرجه مسلم أيضا، لكن في كتاب "الإيمان" (1/106). وعنده أيضا الرّواية التي عزاها للحاكم، فوهِم في استدراكه على مسلم، لا سيّما ورواية مسلم أتمّ، والزّيادات له، وبعضها عند الحاكم أيضا ".
والله الموفّق.