أخبار الموقع
***تقبل الله منا ومنكم، وكل عام أنتم بخير أعاده الله على الأمّة الإسلاميّة بالإيمان والأمن واليمن والبركات***
لطرح استفساراتكم وأسئلتكم واقتراحاتكم اتّصلوا بنا على البريد التّالي: [email protected]

مختارات

- موقف الشّيخ ابن بايس من دعوة الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمهما الله

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فيقول الله سبحانه وتعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5].

والمريج هو المختلط، ومنه قوله تعالى:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرّحمن: 19].

وسبب الخلط والتخبّط هو ردُّ الحقّ ودفعُه: اتّباعا للشّبهات، أو الرّكض خلف الشّهوات، أو تعصّبا لشيخ أو جماعة أو مشرب، أو بغضا لشخص أو طائفة أو مذهب.

قال ابن القيّم رحمه الله:

" ... فإنّ من ردّ الحقّ مرج عليه أمرُه، واختلط عليه، والتبس عليه وجه الصّواب، فلم يدرِ أين يذهب " ["أعلام الموقّعين" (2/173)].

- قبساتٌ من حياة الشّيخين ابن باديس والإبراهيمي رحمهما الله-

محاضرة أُلقِيت يوم الثّلاثاء 12 جمادى الآخرة 1434 هـ الموافق لـ: 23 أفريل 2013 م

بمسجد " الإصلاح " ببلديّة الأربعاء.

الحمد لله القائل:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:

23]، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك كلّه وله الحمد وحده، جعل في كلّ زمانِ فترةٍ من الرّسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويُحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالِّ تائهِ قد هدوه، فما أحسن أثرهم على النّاس ! وما أقبح أثر النّاس عليهم !

وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، وصفيّه من خلقه وخليله، القائل: (( يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ ))، صلّى الله عليه وعلى آله الطّاهرين، وأصحابه الطيّيبين، وعلى كلّ من اتّبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين، أمّا بعد:

فحديثنا اليوم إنّما هو قبسات - كما هو في عنوان المحاضرة - من حياة رجلين عظيمين من رجال هذه الأمّة. والقبس هو ما يُؤخذ من النّار، كما قال تعالى عن نبيّه موسى عليه السّلام:{ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه من: 10]، فإنّنا لا يمكننا أن نُحيطَ بأنوار حياة هذين الشّيخين، فلْنقتَصِر على أخذ قبسات تكون لنا نبراسا يُضيء لنا السّبيل.

-" الفـاضي يعمل قاضـي "

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فأستفتح هذه المقالة، بكلمة الشّيخ مبارك الميلي رحمه الله وهو يُعاني في زمانه من المثبّطين، ويتألّم من مواقف بعض المرجفين، الّذين لا يحملون شيئا إلاّ لواء تتبّع العثرات، وإذاعة الزلاّت والسّقطات.

قال رحمه الله:

" وقد تعدّدت وسائل الإرشاد في هذا العصر، وسهُلت طرقه، فلماذا لا ننهض مع تعدّد الحوافز وتكرّر المخازي ؟

وإذا نهض أحدنا فلماذا لا نعاضِدُه ؟

وإذا لم نُعاضِدْه فلماذا نُعارضه ؟

وإذا عارضناه فلماذا نعارضه بالبهتان ؟

وإذا عارضناه بالبهتان لحاجة، فلماذا يُعارضه من لا ناقة له ولا جمل في المعارضة والبهتان ؟"اهـ

- لماذا الحديث عن الثّبات ؟

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فإنّ أعظم نعمة يمنّ بها المولى عزّ وجلّ على عباده هي نعمة الهداية إلى الإسلام، ثمّ الاستقامة عليه مدى الأيّام؛ لذلك كان الحديث عن الثّبات حديثاً عن عنوان السّعادة الأبديّة، والفوز برضا ربّ البريّة سبحانه.

وجوابا عن هذا السّؤال الكبير: لماذا الحديث عن الثّبات ؟ فإنّي أقول: إنّ ذلك لأسباب ثلاثة:

السّبب الأوّل: كثرة الانتكاسة ..

- توقـيـر العـلـمـــاء من توقـيـر الله عزّ وجلّ

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى كلّ من اقتفى أثره واتّبع هداه، أمّا بعد:

فإنّ الله تعالى قد أولى العلم منزلة تفوق كلّ المنازل، ومرتبة تعلو على كلّ المراتب، وخصّ أهله بالانتقاء والاصطفاء، ورفع ذكرَهم في الأرض والسّماء، وإنّي على يقين تامّ أنّه ما من مسلم ولا مسلمة إلاّ وهو يقرّ بكلّ ذلك، لا ينكره ولا يجحده إلاّ زائغ هالك ..

ولكنّ هذه الكلمات إنّما هي من أجل الغفلة الّتي سكنت كثيرا من القلوب، ولا عاصم منها إلاّ علاّم الغيوب ..

هذه الكلمات ما هي إلاّ تذكرة للغافل، وتثبيتا للمجدّ العاقل، وقطعا لحجّة كلّ متكاسل ..

فالمفرّط في العلم وأهله صنفان:

Previous
التالي

الجمعة 05 رمضان 1432 هـ الموافق لـ: 05 أوت 2011 11:38

- أَيْنَ دَمْعَتُكَ ؟ ..

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

من خطب رمضان 1426 هـ/ 2005 م

الخطبة الأولى: [بعد الحمد والثّناء]

فإنّ موضوع خطبتنا اليوم إن شاء الله تعالى عبارةٌ عن سؤال .. سؤال مخجل، وما المسؤول عنه بأخجل من السّائل ..

أسألك أخي الكريم وكلّنا مقصّر في جنب الله العليّ العظيم: أين دمعتك ؟ أين دمعتك في دموع الباكين ؟ أين زفرتك بين زفرات التّائبين ؟ أين دمعتك من خشية ربّ العالمين ؟ وأين دمعتك من حبّ أكرم الأكرمين ؟ وأين عَبرتك رجاء رحمة أرحم الرّاحمين ؟!.

أمّا ضحكتك فقد سمعتها .. أمّا ابتسامتك فقد رأيتها .. ولكنّني أبحث عن دمعتك ؟!

ولا يعني كلامُنا هذا أنّ الضّحك حرام؛ فإنّ كلاًّ من البكاء والضّحك من آيات الله في خلقه، فهو القائل:{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)} [النّـجـم].. ولكنّ الإكثار منه هو المذموم، والمكثر منه هو المحروم.

كيف لا، وقد روى التّرمذي وغيره  عنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ[1]، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ )) قال أبو ذرٍّ رضي الله عنه: لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ.

ونظر وُهَيْب بنُ الورد رحمه الله إلى قوم يضحكون فقال:" إن كان هؤلاء قد غُفِر لهم فما هذا فِعْلُ الشّاكرين ! وإن كان لم يغفَرْ لهم فما هذا فعل الخائفين ! ".

وقال محمّد بن واسع لرجل:" إذا رأيت رجلاً في الجنّة ويبكي، ألست تعجب من بكائه ؟ قال: بلى. قال: فالّذي يضحك في الدّنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه !".

وسينحصر حديثنا بإذن الله تعالى في نقطتين اثنتين:

الأولى: فضل البكاء من ذكر الله تعالى.

الثّانية: أخبار الباكين.

أوّلا: فضل البكاء من خشية الله ؟

لماذا الحديث عن البكاء ؟

أيّها المؤمنون والمؤمنات !.. اعلموا أنّ مقامات الإيمان ثلاثة: حبّ الله، وخوف الله، ورجاء الله.

فمن أحبّ الله بكى شوقا إليه، وخوفا من فوات قربه. فأعظم بليّة أن يحتجب عنك ربّ البريّة !

ومن خاف من الله بكى من ذنوبه، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].

ومن رجا الله تعالى بكى رجاء رحمته، وطمعا في أن يُدخله في جنّته.

فلمّا ذهبت هذه المقامات تركنا البكاء لذكر الله تعالى، قال أبو سليمان الدّارانيّ رحمه الله:" لكلّ شيء عَلَمٌ، وعلامة الخذلان ترك البكاء، ولكلّ شيء صدأٌ وصدأ القلوب الشِّبع "..

فتعال أخي الكريم إلى هذا المقام العظيم، والمنزل الكريم، لتستمع إلى ما يبيّن لك فضل البكاء من ذكر الله تعالى.

1- أوّلا: إنّ البكاء لذكر الله ومن خشية الله تعالى قد أولاه علماء السّلف عناية فائقة، واهتماما رائقا، حتّى صنّفوا فيه التّصانيف، وأكثروا فيه التآليف، وخصّصوا له في كتبهم أبوابا وفصولا، وذكروا فيه آثارا ونقولا:

ففي " كتاب الزّهد " للإمام أحمد باب في فضل البكاء من خشية الله.

وفي " سنن الإمام التّرمذي ": باب في ما جاء في فضل البكاء من خشية الله.

وفي كتاب " التّرغيب والتّرهيب " للإمام المنذريّ: فصل في التّرغيب في البكاء من خشية الله.

وفي كتاب " التّبيان في آداب حملة القرآن " للإمام النّووي: فصل في البكاء من خشية الله عند تلاوة كلام الله جلّ وعلا، وغيرها كثير.

2- ثانيا: لقد ذكر الله البكاء في كثير من سور القرآن الكريم، لا سيّما في السّور المكّية في بداية الدّعوة إلى الله حتّى يتربّى الصّحابة الكرام على ذلك، فقال سبحانه وتعالى في سورة مريم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58].

وقال في سورة الإسراء:{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108 وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)} [الإسـراء].

بل إنّ الله تعالى أنكر على من سمع القرآن ولم يبكِ فقال:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)}.. وكلّ من سورة مريم والإسراء والنّجم مكّية.

3- ثالثا: لمّا كان البكاء من ذكر الله تعالى بهذا المقام، عاتب الله تعالى أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد أربع سنين فقط من إسلامهم !

فقد روى مسلم عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].

4- رابعا: لمّا أراد الله تعالى أن يُثنِي على من أسلم من أهل الكتاب ذكرهم بصفة البكاء، فقال:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83].

5- خامسا: أنّ البكّاء من خشية الله نجاة يوم القيامة من حرّ الشّمس ولهيبها.

فلا يخفى عليكم قولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم - فيما رواه مسلم عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه - قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ [قال سُلَيْمُ بنُ عامرٍ: فَوَالله ما أدرِي ما يعني بالمِيلِ: أمسافةَ الأَرضِ أم الميلَ الّذي تُكْتَحَلُ به العينُ ؟!] قَالَ: فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا )) وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ.

ولكن هناك أصنافا من النّاس وقاهم الله شرّ ذلك اليوم ولقّاهم نضرةً وسرورا، فمن السّبعة الّذين يُظلُّهم الله تعالى في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: (( وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ )).

( ذَكَر الله ) أي: بقلبه من التذكّر، أو بلسانه من الذّكر.

( ففاضت عيناه ) أي فاضت الدّموع من عينيه، حتّى إذا رأيت العين تظنّ أنها هي الّتي فاضت لكثرة بكائه.

فإذا ذكر أوصاف الجلال كان بكاؤه من خشية الله، وإذا ذكر أوصاف الجمال كان بكاؤه من الشّوق إليه سبحانه.

6- سادسا: أنّ الله حرّم النّار على عين بكت من خشية الله عزّ وجلّ.

فقد روى التّرمذي عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ )).

وروى الإمام أحمد وغيره عن أبي ريحانة رضي الله عنه عنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( حُرِّمَتْ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ وَبَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَحُرِّمَتْ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهَرَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَحُرِّمَتْ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ كَفَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ )).

ورى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضِّرْعِ )).

7- سابعا: بل إنّ الله جعل تلك العبرات من أحبّ الأشياء إليه سبحانه.

فقد روى التّرمذي عن أبي أمامةَ رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ: قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ )).

8- ثامنا: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما كان يأمر أصحابه بالبكاء.

فقد روى التّرمذي عن عقبةَ بنِ عامرٍ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ ! مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ: (( أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ))..

وروى الطّبراني في " الأوسط " عن ثوْبانَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ )).

وما كان من الصّحابة إلاّ أن بلّغوا هذا الأمر إلى من بعدهم، فقد روى الحاكم عن ابن أبي مليكة قال: جلسنا إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه في الحجر، فقال:" اُبْكُوا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُكَاءً فَتَبَاكَوْا، لَوْ تَعْلَمُوا العِلْمَ لَصَلَّى أَحَدُكُمْ حَتَّى يَنْكَسِرَ ظَهْرُهُ، وَلَبَكَى حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتُهُ ".

وتدركون - معاشر المؤمنين - فضلَ البُكَاء عند ذكر الله تعالى إذا فتحت دواوين الإسلام، وتراجم الأعلام، ووقفت على دموع التّائبين، وعبرات الصّاحين، وذاك ما سنتحدّث عنه بعد قليل إن شاء الله تعالى.

الخطبة الثّانية:                              من أخبار الباكين

الحمد لله، الحمد لله على إحسانه، وعلى جزيل عطائه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلّ عليه وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبع طريقه وسار على منواله، أمّا بعد:

فهل رأيت - رحمك الله - زيًّا ومنظراً أحسن وأجمل من سَمْت الصّالحين ؟!

هل رأيت - وّفقك الله - تعباً ونصباً ألذّ من نعاس المتهجّدين ؟!

وهل شاهدت - حفظك الله - ماءً صافياً أرقّ وأصفى من دموع النّادمين والمتأسّفين ؟!

هل رأيت - رعاك الله - تواضعاً وخضوعاً أحسن من انحناء الرّاكعين وجباه السّاجدين ؟!

وهل رأيت - عافاك الله - جنّة في الدّنيا أمتع وأطيب من جنّة المؤمن وهو في محراب المتعبّدين ؟!

فتعال لتعيش لحظات مع هؤلاء، وتسمع أخبارهم في البكاء: هذا يبكي شوقا إلى مولاه، وآخر ينوح خوفا على بلواه، وثالث يبكي رجاء رحمة الله.

في مقدّمة الباكين سيّد الخلق أجمعين، وإمام المتّقين: النبيّ محمّد المصطفى الأمين صلّى الله عليه وسلّم..

- فقد روى أبو داود وغيره عن عبدِ الله بنِ الشّخّير رضي الله عنه قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المِرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ. أي: أنّ لجوفه صوتاً كصوت غليان القدر إذا اشتدّ.

- وروى ابن خزيمة عن عليّ رضي الله عنه قال: لَقَدْ رَأَيتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا فِينَا إِلاَّ نَائِمٌ، إِلَّا رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ.

- وفي الصّحيحين عن عبدِ اللهِ رضي الله عنه قال: قال لِي رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ )) قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟! قَالَ: (( إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي )). فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ.

- وروى ابن ماجه عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُهَا:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

- ويأتي صلّى الله عليه وسلّم يوما إلى أصحابه رضي الله عنهم يذكّرهم، ويأمرهم .. يأمرهم بالبكاء ..

جاء في الصّحيحين عن أنسٍ رضي الله عنه قال: خَطَبَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ قَالَ: (( عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ أَرَ كَاليَوْمِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا )) قَالَ أنسٌ رضي الله عنه: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وُجُوهَهُمْ، وَلَهُمْ خَنِينٌ. والخنين هو: شدّة البكاء.

- وكان أبو عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه أمين هذه الأمّة يبكي ويقول:" ودِدت أنّي كنت كبشا أملحَ، فيذبحني أهلي، فيأكلون لحمي، ويَحْسُون مَرَقِي ".

- وروى ابن أبي شيبة عن علقمة قال: كان عمر رضي الله عنه يقرأ في صلاة العشاء الآخرة بسورة يوسف، وأنا في مؤخرة الصّفوف، حتّى إذا بلغ قوله الله تعالى عن يعقوب عليه السّلام:{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} سمعت نَشِيجَه.

- وأخرج أحمد في "الزّهد" بسند حسن أنّ عمر رضي الله عنه كان يبكي من خشية الله، وربّما مرّ بالآية من ورده باللّيل فتخنقه، فيبقى في البيت أيّاما، يُعاد يحسبونه مريضا.

- وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: رأى عمر أصحابه فجلس، وقال: اُدْعُوا ! فدعَوا. قال: فانتهت الدّعوة إليّ فدعوت، فرأيته دعا وبكى بكاء لا تبكيه الثّكلى، فقلت في نفسي: هذا الّذي تقولون إنّه غليظ!.

- وجاء في ترجمة ابن عمر رضي الله عنه عن القاسم بن أبي بزّة أنّ ابن عمر رضي الله عنه قرأ فبلغ قول الله تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَفبكى حتّى خرّ، وامتنع من قراءة ما بعدها.

- وفي حلية الأولياء عن ابن أبي مليكة قال: صحبت ابن عبّاس رضي الله عنه من مكّة إلى المدينة، فكان إذا نزل قام شطر اللّيل، فيقرأ:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُفجعل يرتّل ويكرّر وفي ذلك نشيج.

- ويقول أبو رجاء العطارديّ: رأيت ابن عبّاس وأسفل عينيه مثل الشّراك البالي من البكاء.

- وهذا العلاء بن زياد، يقول قتادة عنه: كان العلاء قد بكى حتّى عَشِيَ بصره، وكان إذا أراد أن يقرأ أو يتكلّم جهشه البكاء، وكان أبوه قد بكى حتّى عمِيَ.

- ويقول مطر الورّاق: كان الحسن إذا ظهر كأنّما جاء من الآخرة يخبر عمّا عاين، ويقول إبراهيم بن عيسى: ما رأيت أحدا أطول حزنا من الحسن، ما رأيته إلاّ حسبته حديثَ عهدٍ بمصيبة.

- وهذا ثابت بن أسلم البُناني: قال حمّاد بن زيد: رأيت ثابتا يبكي حتّى تختلف أضلاعه. وكان يقرأ قوله تعالى:{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً}، فلا يزال يكرّرها في صلاة اللّيل ينتحب ويردّدها.

ونهاه أهله عن البكاء خوفا عليه من العمى، فقال: فما خيرُهُما إذا لم يبكِيا ؟!

- وهذا محمّد بن المنكدر: جاء في "السّير": بينما هو قائم ذات ليلة يصلّي إذا به يبكي، فكثُر بكاؤه حتّى فزع له أهله، فسألوه فاستعجم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه، فقال: ما الّذي أبكاك ؟ قال: مرّت بي آية. قال: ما هي ؟ قال:{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فبكى معه أبو حازم فاشتدّ بكاؤهما.

هذا حال محمّد بن المنكدر، الّذي قال عنه ابن الماجشون: إنّ رؤية محمّد بن المنكدر لتنفعني في ديني، فكيف بمثلي ومثلك ؟!

- وقال أبو نعيم: كان سفيان إذا ذكر الموت لم يُنتفع به أيّاما.

أيّها المؤمنون .. إنّ أهلَ البكاء من خشية الله قافلة ضخمة، حطّت ركائبها في سوق رحبة، اشتروا البكاء من خشية الله .. تلك البضاعة الّتي زهد فيها معظم القوم إلاّ من رحم الله ..

آياتٌ تُتلى، وأحاديثُ تروى، ومواعظُ تلقى، والعين قد أصابها الجدب والقحط !

فنسأل الله تعالى أن يُمطر علينا أمطار الرّحمة والسّكينة، واليقين والطّمأنينة، ونعوذ به سبحانه من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع ومن عين لا تدمع.



[1] أي: صوّتت وضجّت.

أخر تعديل في الجمعة 12 رمضان 1432 هـ الموافق لـ: 12 أوت 2011 13:58

Your are currently browsing this site with Internet Explorer 6 (IE6).

Your current web browser must be updated to version 7 of Internet Explorer (IE7) to take advantage of all of template's capabilities.

Why should I upgrade to Internet Explorer 7? Microsoft has redesigned Internet Explorer from the ground up, with better security, new capabilities, and a whole new interface. Many changes resulted from the feedback of millions of users who tested prerelease versions of the new browser. The most compelling reason to upgrade is the improved security. The Internet of today is not the Internet of five years ago. There are dangers that simply didn't exist back in 2001, when Internet Explorer 6 was released to the world. Internet Explorer 7 makes surfing the web fundamentally safer by offering greater protection against viruses, spyware, and other online risks.

Get free downloads for Internet Explorer 7, including recommended updates as they become available. To download Internet Explorer 7 in the language of your choice, please visit the Internet Explorer 7 worldwide page.