أطلق بعض أهل العلم جواز الإسبال للنّساء، وقالوا: إنّ الخطاب موجّه للرّجال دون النّساء.
قال القاضي عياض رحمه الله - كما في " طرح التّثريب "(8/173) و" الفتح " (10/259)-:" أجمع العلماء على أنّ هذا ممنوعٌ في الرّجال دون النّساء "، وقال النّوويّ رحمه الله في " شرح صحيح مسلم " (5/14):" أجمع العلماء على جواز الإسبال للنّساء ".
ولعلّ مرادهم رحمهم الله بالإسبال الجائز للنّساء ما كان ممنوعا على الرّجال، لكن بشرط ألاّ يزيد على الذّراع، وإلاّ فإنّ الذّيول إذا زادت على الذّراع فإنّه محرّم عليهنّ.
روى النّسائيّ وغيره عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا ذُكِرَ فِي الْإِزَارِ مَا ذُكِرَ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ بِالنِّسَاءِ ؟ قَالَ: (( يُرْخِينَ شِبْرًا )) قَالَتْ: إِذًا تَبْدُوَ أَقْدَامُهُنَّ ؟ قَالَ: (( فَذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ )).
فأمّ سلمة فهِمت من قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ )) العموم، ولم ينكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليها فهمها، فلمّا سألت قال صلّى الله عليه وسلّم: (( يُرخينه شبراً )) ثمّ قال: (((( فَذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ )).
وعليه فإنّ النّساء محرّم عليهنّ الإسبال كالرّجال، غير أنّ ابتداء الإسبال في حقّهنّ يكون ممّا زاد على قدر الذّراع.
وابتداء الذّراع يكون من الكعب, فما جاوزه فهو إسبال في حقّهنّ.
- · الحكمة من تحريم الإسبال:
أمّا الحكمة من تحريم الإسبال مع الخيلاء فظاهرة جدّا، لأنّ الكبر محرّم بجميع صوره، والخيلاء يبغضها الله إلاّ في موطن النّفقة والجهاد في سبيله، ولقد قال تعالى:{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، وقال:{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولاً} [الإسراء: 37]، و(( لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ )).
أمّا الحكمة من تحريم إسبال الثّياب من غير خيلاء، فقد ذكر العلماء حِكما في ذلك:
منها أنّ فيه مخالفةً لأمر الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وكفى بذلك مضرّة على العبد في دنياه ودينه.
فيه تشبّه بالمتكبّرين وقد سبق بيان ذمّ الكبر، والشّريعة تسدّ كلّ الأبواب المفضية إلى المعصية أو التشبّه بالعصاة.
فيه تشبّه بالنّساء وما يورثه من صفات الأنوثة والتخنّث، أمّا صفات الرّجولة فقائمة على التّشمير والنّشاط.
فيه إسراف وزيادة على القدر المحتاج إليه في اللّباس.
فيه تعريض النّفس إلى الأذى من غير عذر شرعيّ، فيعلق بالثّوب من النّجاسات ما لا يدرك، ولا يأمن تمزّق الثّوب وفساده، لذلك قال عمر رضي الله عنه لخالد بن عُبيد-كما في رواية أحمد والتّرمذي في " الشّمائل "-: ( ارفع إزارك فإنّه أبقى وأنقى ).
- · ما يُعفى عنه في الإسبال:
فلا يؤاخذ المرء بإسباله الثّوب في حالين:
أ) إذا عرض له ذلك كسرعة مشي أو انحناء أو نحر ذلك، كما تشير إله حادثة أبي بكر رضي الله عنه.
ب) إذا أراد دفع الضّرر، كالبرد الشّديد، أو كان بكعبيه جرح يتأذّى من إظهاره ما لم يستره بإزاره، قال الحافظ رحمه الله في " الفتح " (10/ 269): " نبّه على ذلك شيخنا في " شرح التّرمذي "، واستدلّ على ذلك بإذنه لعبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه في لُبس القميص الحرير من أجل الحكّة، والجامع بينهما جواز تعاطي ما نُهِي عنه من أجل الضّرورة، كما يجوز كشف العورة للتّداوي " اهـ.
- · حكم صلاة المسبل:
اختلف العلماء في حكم صلاة المسبل على قولين:
الأوّل: أنّ الصّلاة صحيحة مع الإثم، وهو ظاهر قول المذاهب الأربعة.
["المبسوط (1/206)"، و"البناية في شرح الهداية" (2/551) لأبي محمّد العيني، و"الكافي" (64)، و"التّاج والإكليل" لابن المواق، و"التّبصرة" (491)، و"المجموع" (1/405)و(3/176)، و"المغني" (2/303)، و"الإنصاف"(1/458)].
مع ملاحظة أنّ أكثرهم يقيّد التّحريم بالخيلاء، والصّواب أنّه محرّم مطلقاً.
الثّاني: أنّها باطلة، وهو قول ابن حزم رحمه الله في "المحلّى" (4/73).
وقد ذكر الصّنعانيّ رحمه الله في كتابه "استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرّجال" (ص 38) أنّه لم يُصرّح أحد من العلماء ببطلان صلاة المسبل إلاّ ابن حزم رحمه الله. ووجه قوله هذا ما يلي:
دليل من النّظر، وهو أنّ النّهي يقتضي الفساد.
أدلّة من الأثر، ومنها:
أ) ما رواه أبو داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُصَلِّى مُسْبِلاً إِزَارَهُ إِذْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ )). فَذَهَبَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ، ثُمَّ قَالَ: (( اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ )). فَذَهَبَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَكَ أَمَرْتَهُ أَنَّ يَتَوَضَّأَ ؟ فَقَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّى وَهُوَ مُسْبِلٌ إِزَارَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَقْبَلُ صَلاَةَ رَجُلٍ مُسْبِلٍ إِزَارَهُ )).
ووجه الدّلالة نفي قبول صلاة المسبل، وذلك يقتضي عدم صحّتها.
ب) ما رواه أبو داود عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ - وبعضهم يُوقِفُه -: (( مَنْ أَسْبَلَ إِزَارَهُ فِي صَلاَتِهِ خُيَلاَءَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي حِلٍّ وَلاَ حَرَام )).
قالوا: معناه: أنّ الله لا يعبأ به ولا بصلاته، وليس ذلك إلاّ لبطلانها.
ج) ما ذكره ابن حزم رحمه الله في " المحلّى " (4/73،74) عن بعض السّلف من الآثار:
قول ابن مسعود رضي الله عنه: المُسْبِلُ إِزَارَهُ فِي صَلاَتِهِ لَيْسَ مِنَ اللهِ فِي حِلٍّ وَلاَ حَرَام.
قول ابن عبّاس رضي الله عنه: لاَ يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مُسْبِلٍ.
قول مجاهد: كان يقال: من مسّ إزارُه كعبه لم يقبل الله له صلاةً. وهذا مجاهد أحد أواسط التّابعين يحكي ذلك عمّن قبله وليسوا إلاّ صحابة.
قول ذرّ بن عبد الله المُرهِبي - وهو أحد كبار التّابعين -: كان يُقال: من جرّ ثيابه لم تُقبل له صلاة.
قال ابن حزم رحمه الله: " ولا نعلم لمن ذكرنا مخالفا من الصّحابة " اهـ.
أمّا جمهور العلماء فأجابوا عن أدلّة ابن حزم بما يلي:
أ) قوله إنّ النّهي أفاد البطلان ليس صحيحا، لأنّ النّهي تعلّق بأمر خارج عن الصّلاة، لا بذاتها، ولا بشرط من شروطها، فأشبه ما لو صلّى وقد لبس ذهبا أو عمامة من حرير ونحو ذلك [قاله الشّيرازي في " المهذّب "، وابن قدامة في " المغني "].
ب) أمّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود فهو حديث ضعيف، لجهالة أحد رواته، لذلك استغرب العلماء قول الإمام النّووي في " رياض الصّالحين ": " رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح على شرط مسلم "! فإنّه ليس من رجال مسلم.
ثمّ لو سلّمنا بصحّته فإنّه لا يدلّ على البطلان، لأنّ القاعدة المقرّرة أنّ نفي القبول إذا اقترن بذكر معصيةٍ فإنّه لا يراد به نفي الصحّة وإنّما يراد به نفي الثّواب، كنفي صلاة العبد الآبق حتّى يرجع، والمرأة النّاشز حتّى تطيع، ومن آتى عرّافا ولم يصدّقه، فإنّه لا يلزم هؤلاء إعادة الصّلوات حال معصيتهم باتّفاق العلماء.
أمّا إن كان نفي القبول غير مقترن بمعصية فإنّه يقتضي نفي الصحّة لأنّ نفي القبول حينها إنّما لفقد شرط من شروطه الصّلاة كصلاة المرأة مكشوفة الرّأس دون خمار.
وصلاة المسبل من النّوع الأول كما هو ظاهر.
ج) أمّا حديث الباب فالأصحّ أنّه موقوف كما يشير إليه كلام أبي داود حيث قال: ورواه جماعة موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه.
فإن قيل: إنّ له حكم الرّفع، فيُجاب أنّه لا يدلّ على بطلان صلاة المسبل، فإنّه قال:" لَيْسَ مِنَ اللهِ فِي حِلٍّ وَلاَ حَرَام " وهذا يحتمل معنيين:
ليس من الله في حلٍّ أي: لا يجعله في حلّ من الذّنوب، ولا في حرام أي: ليس في منع الله وحفظه فلا حرمة له.
أو يكون المعنى: لا يعظّم ولا يؤمن بحلال ولا بحرام.
بدليل أنّنا نجزم أنّه في حرام عاصٍ لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
حتّى لو كان المعنى أنّ الله لا يقبل صلاته، فقد سبق بيان معنى نفي القبول.
د) أمّا الأثار عن السّلف:
فأثر ابن مسعود رضي الله عنه قد أجيب عنه.
وأمّا أثر ابن عبّاس رضي الله عنه فلا يدلّ على المقصود، لأنّه موافق للأحاديث السّابق شرحها أنّ الله لا ينظر إليه يوم القيامة، وهو ليس موضع النّزاع.
أمّا أثر مجاهد وذرّ بن عبد الله المُرهِبيّ فليس فيهما إلاّ نفي القبول، وقد سبق بيان قول أهل العلم في ذلك.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم.