في هذا الحديث فضل عظيم جدّا للاستغفار، وهو الفضل السّادس: أنّه جلاء القلوب وطهورها.
- ( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً ): أي: أذنبَ ذنباً ( نَكَتَتْ ) من النَّكت، وهو في الأصل: أن تضرب في الأرض بقضيبٍ فيؤثّر فيها.
- ( نُكتَةً سودَاءَ ) أي جُعِلت في قلبه نكتةٌ سوداء، أي: أثر قليل، كنقطة تشبِهُ الوسخ في المرآة والسّيف ونحوهما. وقال القاري:" أي كقطرة مداد تقطر في القرطاس ".
ويختلف هذا الأثر من الوسخ على القلب بحسب المعصية وقدرها.
واختلفوا هل هو على الحقيقة أو مجرّد التّشبيه ؟ فمن حمله على الحقيقة قال: ذلك هو الأصل، ولا مانِعَ عقلاً من تأثير المعاصي على القلب.
ومن جعله من باب التمثيل والتشبيه قال: شبّه القلبَ بثوبٍ في غاية النّقاء والبياض، والمعصيةَ بشيءٍ في غاية السّواد، فأصاب ذلك الثّوبَ الأبيضَ، فأذهب نقاءَه وجمالَه. وكذلك قلبُ الإنسان يسودّ بسبب المعصية.
- ( فإذَا هُوَ ) أي: العبد ( نزَعَ ) أي: نفسَه عن ارتكاب المعاصي ( واستَغْفَرَ ) أي سأل الله المغفرة ( وتَابَ ) أي من الذّنب.
- ( صُقِلَتْ ) بالبناء للمفعول، هذا هو الصّواب، وهي رواية ابن حبّان والنّسائي في "الكبرى"، وفي "صحيح التّرغيب والتّرهيب": (صَقُلَتْ) ولعلّه خطأ مطبعيّ.
وفي رواية التّرمذي: ( سُقِلَ قَلْبُهُ ) بالسّين المهملة، قال في "اللّسان":" السَّقل والصَّقل: الجَلاء، وصقَلَهُ: جلاّه " اهـ. والمعنى: نظّفَ وصفَّى مرآةَ قلبِه؛ لأنّ التّوبة بمنزلة المِصقَلة تمحو وسخَ القلب وسوادَه حقيقةً أو مجازاً.
- ( وَإِنْ عَادَ ) أي العبد في الذّنب والخطيئة، ولم يستغفر، ( زِيدَ فِيهَا ) أي: في النّكتة السّوداء ( حَتَّى تَعْلُوَ ) أي: النُّكتُ تعلو قلبَه، فتُطْفِئُ نورَه، وتُعمِي بصيرتَه.
- ( وَهُوَ ) أي: ذلك الأثر المستعلِي ( الرَّانُّ ) ويقال: " الرَّيْن ". (الّذِي ذَكَرَ اللهُ) أي في كتابه:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
وأصل الرّان والرّين: الغشاوة، وهو كالصَّدَإِ على الشّيء الصَّقِيل، وبدايتُه " الغَيْنُ " أو "الغَيْمُ"، كما في صحيح مسلم عنِ الأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ )).
فإذا تساهل المرءُ ازدادَ حتّى يصير رانّا، وما بعده "الطّبع" و"الختم" على القلب، عياذا بالله تعالى.
قال ابن القيّم رحمه الله في "الوابل الصيّب" (40):
" وإذا صدِئَ القلبُ لم تنطبعْ فيه صورُ المعلومات على ما هي عليه، فيرَى الباطل في صورة الحقّ، والحقّ في صورة الباطل؛ لأنّه لمّا تراكم عليه الصّدأ أظلم، فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه، فإذا تراكم عليه الصّدأ، واسودّ وركبه الرّان، فسد تصوّرُه وإدراكُه، فلا يقبل حقّا، ولا ينكر باطلا، وهذا أعظم عقوبات القلب ..." اهـ
وذكر في "تحفة الأحوذي" (9/179) عن ابن الملك قال:
" هذه الآيةُ مذكورة في حقّ الكفّار، لكن ذكرها صلّى الله عليه وسلّم تخويفا للمؤمنين، كي يحترزوا عن كثرة الذّنب، كيلا تسودّ قلوبهم، كما اسودّت قلوب الكفّار، ولذا قيل: المعاصي بريد الكفر " اهـ.