ثمَّ يشْتَرِطُ المُسْلِمُونَ شُرْطَةً للْمَوْتِ، لا ترْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فيَقْتَتِلُونَ حتَّى يَحْجُزَ بينَهُمُ اللّيْلُ، فيَفِيءُ هؤُلَاءِ وهؤُلَاءِ، كلٌّ غيْرُ غالِبٍ، وتفْنَى الشُّرْطَةُ.
ثمَّ يشْتَرِطُ المُسْلِمُونَ شُرْطَةً للْمَوْتِ، لا ترْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فيَقْتَتِلُونَ حتَّى يَحْجُزَ بينَهُمُ اللّيْلُ، فيَفِيءُ هؤُلَاءِ وهؤُلَاءِ، كلٌّ غيْرُ غالِبٍ، وتفْنَى الشُّرْطَةُ.
فإذَا كانَ يوْمُ الرَّابِعِ، نَهَدَ إليْهِمْ بقِيَّةُ أهْلِ الإِسلَامِ، فيجْعَلُ اللهُ الدَّبْرَةَ عليْهِمْ، فيَقْتُلُونَ مَقْتَلَةً - إمَّا قالَ: لا يُرَى مِثْلُهَا، وإمَّا قالَ: لمْ يُرَ مِثْلُهَا - حتَّى إنَّ الطّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ، فَمَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا.
فيَتَعَادُّ بَنُو الْأَبِ، كَانُوا مِائَةً، فلَا يجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إلَّا الرّجُلُ الوَاحِدُ، فبأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ؟ أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ؟
فبيْنَمَا هُمْ كذلِكَ، إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ، هُوَ أَكْبَرُ منْ ذَلِكَ، فَجاءَهُمُ الصّرِيخُ: إنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ !
فَيَرْفُضُونَ ما فِي أَيْدِيهِمْ، ويُقْبِلُونَ، فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً، قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
( إنِّي لَأَعْرِفُ أسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهمْ، وألْوَانَ خُيُولِهِمْ، همْ خيْرُ فَوَارِسَ علَى ظهْرِ الأَرْضِ يوْمَئِذٍ - أوْ مِنْ خَيْرِ فوَارِسَ علَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ -).
- · شرح غريب الحديث [1]:
* قوله: (رِيحٌ حَمْرَاءُ) أي: شديدة، اِحمرَّ بها السّحابُ، ويَبِسَت لها الشّجر، وانكشفتْ الأرضُ، فظهرتْ حُمرتُها.
* (لَيْسَ لَهُ هِجِّيرَى) الهِجِّيرَى - بكسر الهاء والجيم المشدّدة، مقصور الألف -: العادةُ والدَّأْب. ومن اللّغات فيها: هِجِّيرٌ. ومعنى كلامه: أنّه كان يكرّرُ ويعيدُ قائلاً: «جَاءَتِ السَّاعَةُ ! جَاءَتِ السَّاعَةُ !».
وإنّما قال ذلك استدلالًا بتغيُّرِ الجوِّ بسببِ الرّيحِ الحمراء.
* قوله: (إنَّ السّاعةَ لا تقومُ ...): ظاهرُ الحديثِ أنّه موقوفٌ على ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، لكنْ سيأتي أنّه إنّما رواه عن رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم؛ حيثُ يقولُ آخرَ الحديث: فقالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (إِنِّي لأَعْرِفُ أسمَاءَهُمْ ...) إلخ، فهو مرفوعٌ، فتنبّه.
* وقولُه: (حتَّى لا يُقْسَمَ ميراثٌ)؛ أي: لكثرةِ القتْلَى، حتّى يفقدَ الرّجلُ أقاربَه، ولا يُعلمُ المتقدّمُ من المتأخِّرِ في الوفاةِ، فلا يُقسمُ ميراثٌ.
ويدلُّ على هذا التّأويلِ قولُه بعدَ ذلك: (فيَتَعَادُّ بَنُو الْأَبِ، كَانُوا مِائَةً، فلَا يجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إلَّا الرّجُلُ الوَاحِدُ، فبأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ؟ أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ؟).
* قولُه: (عدُوٌّ يجْمَعُونَ لأَهْلِ الإِسْلَامِ، ويَجْمَعُ لهُمْ أهْلُ الإِسلَامِ. قلْتُ: الرُّومَ تعْنِي؟ قالَ: نعَمْ): بوّبَ ابنُ حبّانَ للحديثِ بقولِه: «ذكرُ الإخبارِ عن وصفِ الملحمةِ الّتي تكونُ للمسلمين مع بنِي الأصفَرِ قبلَ خروجِ المسيح الدجّالِ».
وقولُه عدوٌّ يجمعونَ فيه أنّ كلمةَ (عدوٌّ) تطلقُ على المفردِ والمثنّى والجمعِ، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشّعراء: 77].
* قوله: (وتكُونُ عنْدَ ذاكُمُ القتَالِ رَدَّةٌ شدِيدَةٌ): أي: تقع كرّةٌ قويّة بعد الفرارِ، ورجعة كبيرةٌ وصولةٌ شديدةٌ.
* قوله: (فيشْتَرِطُ): أي: يُهيِّئُ ويقتطِعُ (المُسْلِمُونَ شُرْطَةً للْمَوْتِ، لا ترْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً): الشُّرْطَةُ تطلقُ ويرادُ بها معنيان:
الأوّل: طائفَةٌ من أعوانِ الولاةِ معروفة.
الثّاني: أوّلُ كتِيبَة تشهَدُ الحربَ، وتتهيَّأ للموْتِ، سمُّوا بذلك؛ لأنّهمْ أعْلمُوا أنفسَهم بعلاماتٍ يعرفونَ بها.
وقوله: (لِلْمَوْتِ) أي: مُعَدّةٌ ومهيّأةٌ للموت، فيعزِمون على هذه الطائفة أنَّها (لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً) على عدوّها، فإمّا أن تنتصر، وإمّا أن تموتَ.
* قوله: (نَهَدَ إليْهِمْ بقِيَّةُ أهْلِ الإِسلَامِ) أي: نهضَ وتقدّمَ. والنّهودُ في الأصل: الارتفاعُ، ومنه نهودُ الثّديينِ.
* قوله: (فيَجْعلُ الله الدَّبْرَة عليْهِم) أي: على أهلِ الرّومِ. و(الدَّبْرَة): الهزيمةُ. وفي لفظٍ: (فجعلَ الله الدّائرَة عليهِمْ).
* قوله: (حتَّى إنَّ الطّائِرَ لَيمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ) أي: نواحيهم، (فَمَا يُخَلِّفُهُمْ) أي: لا يتجاوزُهم (حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا) لطول المسافة بسبب كثرةِ القتلى، أو لعدمِ تحمُّلِه نتَنَهُم.
* قوله: (فَيَتَعَادُّ بَنُو الأَبِ كَانُوا مِائَةً، فَلَا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ) أي: أنّ جماعةً من الّذين حضرُوا القتالَ، وكانُوا أبناءَ أبٍ واحدٍ أو جدٍّ واحدٍ، يريدون أن يعُدّوا أنفسَهم، فلا يجدون من بقِيَ منهم إلَّا واحدًا في مائةٍ، ويجدونَ باقِيَهُم مقتولينَ !
* قوله: (فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا) أي: المسلمون (بِبَأْسٍ) أي: بحربٍ شديدَةٍ.
* قوله: (فَجَاءَهُمُ)؛ أي: المسلمين، (الصَّرِيخُ) أي: صوتُ المستصْرِخ، وهو المستغيث.
* قوله: (إنّ الدّجَّالَ قدْ خَلَفَهُمْ) أي: قعد مكانهم (فِي ذَرَارِيِّهِمْ) أي: أولادهم، وفي رواية: (في أهْلِيهِمْ). * قوله: (فَيَرْفُضُونَ)، بضم الفاء، وكسرها، أي: يتركون، ويُلقون (مَا فِي أَيْدِيهِمْ)؛ أي: من مالٍ وغنيمةٍ؛ فزعًا على الأهل والعِيال.
* قوله: (فيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً) الطّليعةُ: هو من يُبعث لِيَطَّلع على حال العدوِّ، كالجاسوس.
- · فائدةُ الحديث:
تأمّل قوله: (كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ) أي: كلّ واحدٍ من الفريقين غيرُ غالِبٍ لمقاتلِيه.
ثمّ تأمّلْ قولَه بعدَ ذلك: (وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ) !
وظاهرٌ لكلِّ أحدٍ أنّه إذا فنِيَت الشّرطةُ صارتْ مغلوبةً، والأخرى غالبة، فكيف ذلك؟!
ويُجابُ بأحدِ جوابين:
الأوّل: أنّ عدمَ الغلبةِ إنّما هو بالنّسبة للعسكَرِ العظيمِ، فإنّ هلاكَ الشّرطةِ لا يستلزمُ كونَ العسكرِ مغلوباً.
الثّاني: وهو أنّ صمودَ الشّرطةِ – وهي طائفةٌ من الجيش – في وجه جيشِ الرّومِ بعددِه وعُددِه، وحلفائِه، وقوّتِه وجبروتِه، حتّى منعته من التقدُّمِ إلى معسكرِ المسلمين، ولو كان في ذلك فناءٌ لهم، هو نصرٌ ظاهرٌ، ولكنّ أكثرَ النّاسِ لا يفقهونَ.
[1] «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» (7/233)، و«شرح النوويّ على مسلم» (18/24)، و«مرقاة المفاتيح» (8/3414)، و«البحر المحيط الثجّاج» (44/326-334).