هي سميّة بنت خيّاط أمّ عمّار بن ياسر، أوّل شهيدة في الإسلام، زحفت نحو الموت دون أن تتنازل لأبي جهل عن شيء من دينها، كما قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ( يقتلونها فتأبى إلاّ الإسلام )..
جرّها أبو جهل وهي في قيودها نحو بطحاءِ مكّة على كِبَر سنّها وضعفها، فسلخ جلدها بالسِّياط، وحطّم أضلاعها بالحجارة ..
فلمّا أعياه الجَلد والضّرب، ولم يعُد يحتمل لَفْحَ الشّمس على رأسه، طعنها رضي الله عنها برمح في فرجها، في موضع عفّتها أمام زوجها وابنها، وتركها تتخبّط بدمائها حتّى لفظت أنفاسها الأخيرة رضي الله عنها وأرضاها، وجعل الفردوس متقلّبها ومثواها ..
ورفع ياسرٌ الشّيخ الكبير حاجبيه المثقلين بالشّيب والضّعف والحزن، ولمح في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحزن والدّمع الذي في وجهه ..
لقد هانت عليه نفسُه عندما رأى حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهان كلّ العذاب أمام مسحة حزن رآها على محيّا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأحبّ أن يواسي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يواسيه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم .. لقد بشّره بالصّبر والثّبات قبل أن يبشّره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم برِضى ربّ السّماوات.
روى الإمام أحمد عَنْ عُثْمَان رضي الله عنه قال: أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم آخِذًا بِيَدِي نَتَمَشَّى فِي الْبَطْحَاءِ، حَتَّى أَتَى عَلَى أَبي عَمَّارٍ وَأُمِّهِ يُعَذَّبَانِ، فَقَالَ أَبُو عَمَّارٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الدَّهْرَ هَكَذَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( اصْبِرْ ! )) ثُمَّ قَالَ: (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِآلِ يَاسِرٍ )).
وفي رواية الحاكم والبيهقيّ قال صلّى الله عليه وسلّم: (( أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ، وَآلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ ))..
وكأنّ الشّيخ ياسرا رضي الله عنه يسخر من العذاب، وأراد أن يقول للنّاس أجمعين أنّه لا يخشى السِّياط ولا القيود، بل هو يتزيّن بها للجنّة، ويرجو أن يكون أوّل شهيد في الإسلام ..
كان أمام المعذّبين الآخرين صورتان رهيبتان:
الأولى: صورة العذاب الهائل النّازل بالمؤمنين، لا طاقة لهم بالصّبر عليه، ممّا خارت له قواهم.
فقد روى ابن إسحاق عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عبّاس رضي الله عنه: أكان المشركون يَبْلغون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العذاب ما يُعذَرون به في ترك دينهم ؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه، حتّى ما يقدر أن يستويَ جالسا من شدّة الضرّ الّذي نزل به، حتّى يُعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتّى يقولوا له: آللاّت والعزى إلهُك من دون الله ؟ فيقول: نعم.
أمّا الصّورة الأخرى، فكانت لآل ياسر ومن معهم، فإنّهم حين رأوا منهم ذلكم الصّبر والجَلد، صبروا وثبَتوا.
منهم خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه: وقد كان عبدا فأسلم، فعذّبه المشركون حتّى تعبوا، ولكنّه لم يتعب .. سلبوه دراهمه فصبر واحتسب ..
روى البخاري ومسلم عَنْ خَبَّابٍ رضي الله عنه قَالَ:
" كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ [أي: عبدا]، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ ! فَنَزَلَتْ:{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا }".
أنزل الله في موقفه قرآنا يخلّد موقفه وتتلوه الأمّة كلّها ..
ولكنّهم لمّا رأوا إصراره على تمسّكه بهذا الدّين، وتمسّكه بهدي النبيّ الصّادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم، عزموا على أن يُذيقوه أشدّ ألوان العذاب، وأمرّ كؤوس العقاب..
روى أبو نعيم في "الحلية" (1/144)، والطّبراني في "المعجم الكبير" (4/77) عن الشّعبي عن خباب بن الأرت قال:
" لم يكن أحدٌ إلاّ أعطى ما سألوه يوم عذّبهم المشركون، إلاّ خباب بن الأرتّ، كانوا يُضجعونه على الرّضف (هي الحجارة الحامية)، فلم يستقلّوا منه شيئا ".
قد يقول قائل إنّ بلالا لم يُجِب المشركين كذلك ؟
فالجواب هو ما رواه ابن سعد في "الطبقات" (3/165) عن الشّعبي:
أنّ عمر رضي الله عنه قال يوما لخبّاب: اُدنُه، ما على الأرض أحدٌ أحقّ بهذا المجلس من هذا إلاّ رجلٌ واحدٌ.
قال له خبّاب: من هو يا أمير المؤمنين ؟
قال: بلال.
فقال له خبّاب: يا أمير المؤمنين، ما هو بأحقّ منّي، إنّ بلالا كان له من يمنعه الله به، ولم يكن لي أحدٌ يمنعني، فلقد رأيتني يوما أخذوني وأوقدوا لي نارا ثمّ سلقوني فيها، ثمّ وَضَع رَجُل رِجْلَه على صدري، فما اتّقيت الأرض إلاّ بظهري !
ثمّ كشف عن ظهره فإذا هو قد برِص.
وعند أبي نعيم (1/44) أنّه قال: " أوقدوا لي نارا، فما أطفأها إلاّ ودك ظهري "- الودك هو الشّحم -.
ويقصد رضي الله عنه أنّ بلالا رضي الله عنه كان هناك من أطفأ نار العذاب النّازل به، وهو أبو بكر رضي الله عنه، أمّا هو، فلم يُخمِد عذابه إلاّ شحم ظهره.
وسجّل لنا خبّاب حدثا عجيبا يدلّ على أنّ هناك قواعد لا تتبدّل، ولا تتغيّر ولا تتحوّل..
لا بدّ للفرج من شدّة، ولا بدّ للجنّة من محنة..{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة:214]..
روى البخاري ومسلم عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ - قُلْنَا لَهُ:
أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟! أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا ؟!
قَالَ: (( كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ))..
فكان الصّحابة يعجبون من ثباته صلّى الله عليه وسلّم ورباطة جأشه وتوكّله على الله ويقينه في تحقّق وعد الله ..
إذ كيف برجل لا يستطيع أن يحمي نفسه إلاّ بعمّه، ولا يستطيع أن يحمي أتباعه إلاّ بقوله ( صبرا )، يقسم أنّ هذا الدّين تامّ لا محالة ؟..
يشبه هذا الموقف ذلك اليوم الذي كان فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو وأصحابه رابطين على بطونهم الحجر من شدّة الجوع، يحفرون الخندق، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يضرب بالمعول ويقول: (( الله أكبر ! فتِحت لي كنوز كسرى وقيصر ))..
- إنّه صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يُعلّمنا أنّ البلاء لا بدّ منه للوصول إلى النّعماء، وأنّ الدّماء لا بدّ أن تكون دليلا على صدق الرّجل في دعوته..
- كما أنّه أراد أن يعلّمنا أنّه لا بدّ من الثّقة في وعد الله وخبره، وأنّه مهما كان للكفر من صولة وجولة فإنّ الله متمٌّ نورَه ولو كره الكافرون.
- كما أنّ من فقه هذه الواقعة: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جعل مجرّد الدّعاء والاستنصار استعجالا ! فكيف بمن يريد أن يقابل الحديد بالحديد .. والسّلاح بالسّلاح في مرحلة الضّعف وانعدام الشّوكة ؟! فلا شكّ أنّه أكثر استعجالا، وأبعد عن النّصر والفتح.
وتتمّة أحداث هذه الأيّام العصيبة نراها لاحقا إن شاء الله.