الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد:
فإنّ من أعظم مظاهر العبوديّة لربّ العالمين، الّتي تُعدّ أعظم مقامات المؤمنين، وأشرف منازل السّائرين: تعظيمَ الله تعالى، وتعظيمَ حرماته، وأعرفُ النّاس بالله تعالى: أشدّهم تعظيما له وإجلالا.
وقد ذمّ الله عزّ وجلّ من لم يُعظّمه حقّ تعظيمه فقال:{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13]، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما ومجاهد رحمه الله: ما لكم لا ترجون لله عظمة ؟! وقال سعيد بن جبير رحمه الله: ما لكم لا تعظّمون الله حقّ عظمته ؟!
وبيّن الله تعالى الخيرَ الّذي يجب على المؤمن أن يطلُبه، فقال تبارك وتعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: الآية30]، وقال:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
وقد روى البخاري ومسلم عن أَبِي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللهُ )).
والحرمات هي: ما لا يحلّ انتهاكه .. هي الأمر والنّهي .. هي ما يجب احترامُه وتعظيمُه وحفظُه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأمكنة ..
فمن الأشخاص: رسل الله عليهم السلام، والصّحابة الكرام، والعلماء الأعلام.
ومن الأزمنة: الأشهر الحرم، ورمضان.
ومن الأمكنة: بيوت الله تعالى.
ومنذ أمد بعيد ونحن نلحظ - وللأسف الشّديد - ظاهرة احتقار المساجد، ونسيان تعظيمها في تفاقم وازدياد، وذهبت مهابتُها وكثُر فيها الفساد، وقد خاب قوم لم يعظّموا بيت مولاهم وبارئهم !
فنسأل الله تعالى أن يزيّن قلوبنا بتعظيمِها، ورعايتِها وتكريمِها، عسى ربّنا أن يعاملَنا بجميل لطفه، وحسن رعايته.
- 1) أمّا الكلام عن الدّنيا في المسجد:
- فهذا من المخالفات الشّائعة في مساجدنا اليوم إلاّ ما رحم ربّك.
ولا بدّ أن نبيّن أنّ هناك كلاما مباحا، وأنّ هناك كلاما ممنوعا:
- أمّا الكلام المباح، فهو ما لم يكن فيه تذكيرٌ بالدّنيا وشهواتها، ولا يدفع بالنّفسَ إلى تطلّعاتها، فإذا خلا من ذلك فلا بأس؛ فقد روى مسلم عن جابرِ بنِ سمُرَةَ رضي الله عنه قال: ( كَانَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أَوْ الْغَدَاةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ، وَيَتَبَسَّمُ ).
فهذا - وإن كان حديثاً عن الدّنيا - لكنّه لا يضرّ بالآخرة، فإنّ الإنسان إذا تحدّث عن أمر الجاهليّة فإنّه يعتبر من ذلك ما يزيده شكرا لله على نعمة الإسلام.
- وأمّا الكلام الممنوع، فهو ما كان فيه خروجٌ عن الأدب الشّرعيّ، كحديث الشّوارع الّذي نسمعه اليوم ! فيستوردونه من المقاهي والملاهي إلى المساجد، حتّى إنّك لتسمع أحدَهم يصِف أخاه بألقاب الحيوان ! أو غير ذلك.
ناهيك عن الغيبة، والتّحريش، والكلام البذيء، واللّعن، فإنّ هذا محرّم خارج المساجد، وهو في المساجد أعظم حرمة وإثماً.
ومن الكلام الممنوع ما كان عن الدّنيا أي: عن البيع والشّراء، والهدم والبناء، و" فلان له كذا " ! " والآخر بنى كذا " ! " ولو رأيت آخِر طراز من سيّارة كذا " !
إنّ المساجد لم تُبْن لمثل هذا، قال تبارك وتعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه} [النّور: من الآية 36]، وإنّ الله تعالى قد نهانا عن أن نمدّ أعيُنَنَا إلى متاع الدّنيا في جميع أحوالنا، فكيف بالمساجد ؟
والآثار في النّهي عن اللّغط في المساجد كثيرة جدّا، منها:
أ) ما رواه ابن حبّان في "صحيحه" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
(( سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَأْتُونَ المَسَاجِدَ، فَيَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا حِلَقًا، ذِكْرُهُمْ الدُّنْيَا وَحُبُّهَا، فَلاَ تُجَالِسُوهُمْ، فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ )). [وهو حديث حسن كما في " صحيح التّرغيب والتّرهيب (296)"].
ب) ما رواه ابن حبّان أيضا والطّبراني في "الكبير" عن ابن عمر رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لاَ تَتَّخِذُوا المَسَاجِدَ طُرُقًا، إِلاَّ لِذِكْرٍ أَوْ صَلاَةٍ )) [" صحيح التّرغيب والتّرهيب " (295)].
ج) وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يقول:" من كان يريد أن يلغط، أو يُنشد شعرا، أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرّحبة ".
د) وقال سعيد بن المسّيب رحمه الله:" من جلس في المسجد فإنّما يجالس ربّه، فما حقّه أن يقول إلاّ خيرا ".
بل حكى العلماء أنّهم يكرهون الكلام بالأعجميّة في المساجد لغير ضرورة.
2) وأمّا رفع الصّوت في المسجد:
فقد قال العلماء رحمهم الله: لا يُرفع الصّوت إلاّ بالأذان والتّعليم كإلقاء درس أو موعظة.
بل إنّ الإمام مالكا رحمه الله قال:" لا يُرفع الصّوت ولو بالعلم " ! ويا سبحان الله ! فكيف بمن يرفع صوته بغير العلم كنداء شخص، أو ضحك، أو جدال وخصام ؟!
قال الشّاطبي رحمه الله:" وأمّا ارتفاع الصّوت في المساجد فناشئ عن بدعة الجدال في الدّين ".
وتامّل هذا الحديث العظيم الذي رواه البخاري ومسلم عن كعْبِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ:
تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: (( يَا كَعْبُ ! )) قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (( ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا ))- وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَيْ: الشَّطْرَ - قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (( قُمْ فَاقْضِهِ )).
فإنّنا نستفيد من هذا الحديث أنّه صلّى الله عليه وسلّم راعى حُرمةَ المسجد، فلم يعجبه رفعُ الأصوات حتّى أمره بأن يضع النّصف من ماله!
وفي صحيح البخاري عنْ السّائِبِ بنِ يزِيدَ رحمه الله قالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فقال:" اذْهَبْ، فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ ".
فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قال: مَنْ أَنْتُمَا ؟ أَوْ - مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا ؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قال:" لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ؟!".
لذلك، أوجّه نداء للإخوة المصلّين: أن يعظّموا بيوتَ الله تعالى، ويعلّموا أولئك الّذين ينهضون فور انتهاءِ الصّلاة رافعِين أصواتَهم بسؤال النّاس الإعانة، فليقم منكم رجل رشيد يُحسن الحديث والمعاملة، ولْيسكته، ويعلّمه أنّه لا يجوز رفع الصّوت بمثل هذا، وإنّما عليه أن يجلس مكانه ويتّصل بالقائمين على المسجد، أو يجلس واضعا علامة على أنّه يحتاج إعانة.
وهل جاء النّهي عن نُشدان الضالّة أو إنشادِها إلاّ من أجل مراعاة حرمة المسجد ؟!
[والضالّة هي الشّيء الذي يضيع من الإنسان، فإذا ضاع منه شيء فيحرم عليه نُشدانها، وعلى غيره إنشادها.
ونُشدان الضالّة: رفع الصّوت للإعلام بفقدانها، وإنشادها: رفع الصّوت للإعلام بوجودها].
وقد جاءت أحاديث في النّهي عن ذلك:
روى مسلم عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ ! فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لهذَا )).
وفي رواية التّرمذي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ )).
وفي صحيح مسلم عن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا وَجَدْتَ ! إِنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ )).
وكذلك حرّم البيع والشّراء في المسجد من أجل ذلك أيضا.
3- وأمّا استعراض الجوّالات والمقاطع السّمعيّة والبصريّة:
فهذا أشأم من الحديث عن الدّنيا والبيع والشّراء، لأنّ هذه البيع والشّراء فيهما على الأقلّ مصلحة دنيويّة ترجع بالنّفع على صاحبها، أمّا مثل تلك المناظر المقزّزة: أن يُرِيَ كلٌّ منهم صاحبَه تفاهات ! وحماقات ! فذاك أشدّ غبنا وأكثر خسرا.
ناهيك أنّ إظهار الصّور والأناشيد بالمسجد فيه انتهاك صريح لبيوت الله تعالى.
4- وأمّا جهرهم بالحديث والضّحك: فموعظة أخيرة إلى هؤلاء:
فقد روى أبو داود بسند صحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال:" اعتكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: (( أَلاَ إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ لِرَبِّهِ، فَلاَ يُؤْذِيَنَّ بُعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلاَ يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضِكُمْ فِي القِرَاءَةِ )).
هذا فيمن قرأ كلام الرّحمن الّذي هو شفاء ورحمة، فكيف بكلام البشر ؟! كلام البشر عن الدّنيا ؟ كلام البشر عن تفاهات الدّنيا ؟
والله الموفّق لا ربّ سواه.