ولو أهلّ عليهم رمضانان لزمهم القضاء وفديتان، وهكذا.
وهذا مذهب الأئمّة الثّلاثة: مالك، والشّافعيّ، وأحمد رحمهم الله، وقول إسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وغيرهم.
وخالف في ذلك الحسن البصريّ، وإبراهيم النّخعيّ، وأبو حنيفة، وداود الظّاهريّ، تمسّكاً بظاهر قوله تبارك وتعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وقول الجمهور أقرب إلى الصّواب إن شاء الله؛ لدليلين اثنين:
أ) ما رواه البخاري ومسلم عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ.
فقولها هذا يدلّ على أنّها تحرّجت من أن يدخُل عليها رمضان وهي لم تقضِ بعدُ صومَها.
ب) ما ثبت في سنن الدّارقطني عن مُجاهِدٍ عن أبِى هريرةَ رضي الله عنه قالَ فيمَنْ فرّطَ في قضاءِ رمضانَ حتّى أدْركَهُ رمضانُ آخَرُ: يَصُومُ هَذَا مَعَ النَّاسِ، وَيَصُومُ الَّذِى فَرَّطَ فِيهِ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
قال الدّارقطني:" إسناد صحيح موقوف "، وصحّحه الشّيخ الألباني رحمه الله في ثنايا " السّلسلة الضّعيفة " رقم (838).
وروى رحمه الله أيضا عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: مَنْ فَرَّطَ فِى صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى يُدْرِكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ، فَلْيَصُمْ هَذَا الَّذِي أَدْرَكَهُ، ثُمَّ لْيَصُمْ مَا فَاتَهُ، وَيُطْعِمْ مَعَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
- مقدار الفدية:
إنّ فِدية الصّيام هي مقدار ما يُخرجه المسلم من الطّعام يقدّمه للمساكين عن كلّ يوم من أيّام رمضان.
وتُقدّر الفدية بحسَب ما تيسّر للمكلّف؛ وذلك لأمرين اثنين:
الأوّل: إطلاق الآية، فقال عزّ وجلّ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، ومن قواعد الفقه أنّ: ( ما لم يُضبطْ بالشّرع ضُبِط بالعُرف )، ويعبّر عن ذلك بعضهم بقوله:" الحقيقة تُدرك بدلالة العادة ".
الثّاني: إنّ فتاوى الصّحابة رضي الله عنهم كانت على ذلك.
وسيأتي معنا في حينِه أنّ ابنَ عبّاس رضي الله عنهما كان يجعلها صاعاً من حِنطة، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يجعلها مُدّا من قمح، وكان أنسٌ رضي الله عنه حين أفطر وعجز عن القضاء يُشرِك معه الفقراء في جفنةٍ من طعامه.
فمن استطاع أن يُخرج طعامه الّذي طبخه فذاك لا إشكال عليه، وأمّا من أراد إخراجها طعاما غير مطبوخٍ فهذا يقدّر بغالب ما يأكله النّاس، أخذا بعموم قوله تعالى:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}.
- ( مسألة ) حكم من ثُوُفِّي وعليه قضاء.
فإنّ الميّت إذا كان عليه صوم فلم يصُمْه لعذر، فلا يخلو من حالين:
- الحال الأولى: أن يكون صومُه صيامَ نذرٍ.
فهذا يصوم عنه وليّه ( أولاده، أو إخوته .. ونحوهم ).
وذلك لما رواه البخاري ومسلم عن عائِشةَ رضي الله عنها أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ )).
ولا بدّ أن نعلم أمورا تتعلّق بمعنى هذا الحديث:
1- أنّ هذا الأمر ليس للوجوب عند الجمهور، وله أن يُطعِمَ عنه كلّ يوم مسكينا.
2- أنّ المقصود بالصّيام هنا هو صيام النّذر، وهو قول عائشة وابن عبّاس رضي الله عنهما، واللّيث بن سعد، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد رحمهم الله، كلّهم قالوا: لا يُصَام عنه إلاّ النذر.
وذلك لما رواه البخاري عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ نَذْر، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا ؟ قَالَ: (( نَعَمْ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى )).
3- أنّ المقصود بقوله صلّى الله عليه وسلّم: ( وَلِيُّهُ )، هو كلّ قريب، ويصحّ قيام الأجنبيّ بذلك، وإنّما ذكر الوليّ لكونه الغالب. قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله.
- الحال الثّانية: أن يكون عليه شيءٌ من صيام رمضان:
فهذا - على القول الصّحيح - يُطعِم عنه وليّه؛ لما رواه البيهقيّ عن عائشة رضي الله عنها أنّها " سُئِلَتْ عَنْ اِمْرَأَةٍ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمٌ ؟ قَالَتْ: يُطْعَمُ عَنْهَا ". وقالت: " لاَ تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وَأَطْعِمُوا عَنْهُمْ " [أخرجه البيهقي].
وروى عبد الرزّاق عن ابنِ عبّاس رضي الله عنهما قال في رجل مات وعليه رمضان ؟ قال:" يُطْعَمُ عَنْهُ ثَلاَثُونَ مِسْكِيناً ".
وروى النّسائي عنه رضي الله عنه قال:" لاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ ".
فابن عبّاس رضي الله عنهما، وعائشة رضي الله عنها هما من رَوَيَا الأمر بالقضاء عن الميّت، ومع ذلك نراهما يخُصّان ذلك بصوم النّذر، وأفتى كلّ منهما فيمن مات وعليه شيء من رمضان بالفِدية، وهما أدرى بمرويّهما من غيرهما.
والله تعالى أعلم.